الواقعية الإسلامية في إدارة العلاقات الدولية.. قراءة في التجربة السورية
بعد مرور قرن
كامل على سقوط الخلافة الإسلامية، بات نموذج الحكم الإسلامي في نظر كثيرين يقتصر
على التنظير المجرد، دون تجربة حقيقية تُختبر فيها المفاهيم وتُطبق النصوص في
ميدان الواقع، هذا الغياب للتجربة العملية أفضى إلى ضعف في فقه الواقع السياسي،
وتراجع في القدرة على المزاوجة بين النص والمصلحة الشرعية، وبين الثابت والمتغير،
بما يحقق مقاصد الشريعة على أرض الواقع في زمن تتسارع فيه المتغيرات الدولية.
لقد أصبح من
المألوف أن يُفسّر بعض المفكرين والباحثين إقامة العلاقات الدبلوماسية أو فتح
السفارات أو عقد اللقاءات مع الدول الغربية على أنه نوع من التبعية أو الخضوع،
وكأن العلاقة مع الآخر لا يمكن أن تكون إلا على أحد طرفي النقيض؛ عداء مطلق، أو
وفاق تام!
وهذا التصور
يناقض المنهج النبوي الذي رسم معالم التوازن في التعامل مع المخالف، دون إفراط ولا
تفريط.
المنهج النبوي في التعامل مع الآخر
الرسول صلى الله
عليه وسلم حين وضع «الصحيفة» في المدينة المنورة، جعل المسلمين واليهود -رغم
اختلاف العقيدة- أمة من دون الناس، تضبط علاقتهم منظومة من الحقوق والواجبات تقوم
على العدل والمساءلة، لا على الولاء التام ولا العداء المطلق.
كما أن النبي
صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي، وتعامل معه بيعاً وشراءً رغم ما يكنه
اليهود من عداوة للمسلمين ونبيهم، ولم يكن ذلك ضعفاً ولا تبعية، بل فقه مصلحة
شرعية راشد يوازن بين المبادئ ومتطلبات الواقع.
بل إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم دخل مكة في حماية وجوار مشرك (المطعم بن عدي) دون أن يعني ذلك
تنازلاً عن المبدأ أو تعليقاً للدعوة الإسلامية، وإنما تجسيد عملي لحكم شرعي في
الاجتماع والسياسة، يجيز التعاون مع غير المسلمين في تدبير المصالح العامة ما دامت
لا تمس الثوابت العقدية.
وعندما أمر
النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالهجرة إلى الحبشة، لم تكن تلك البلاد على وفاق
تام مع الإسلام، بل كانت في الأصل على غير ملّته، ومع ذلك، قَبِل المسلمون العيش
في ظل عدل النجاشي وإنصافه، ووقفوا أمامه يحاورون ويفاوضون دفاعاً عن الحق،
مستفيدين من «سيادة القانون» في تلك الدولة وفق المفهوم المعاصر.
تلك المواقف
النبوية العظيمة تؤسس لقاعدة مهمة في العلاقات بين الأمم، قاعدة تؤكِّد مشروعية
التعاون بما لا يتناقض مع الثوابت، وتبيح العمل وفق فقه المصلحة دون التنازل عن
المبادئ.
الحراك السوري في واشنطن.. قراءة في فقه السياسة المعاصرة
في ضوء هذا
المنهج المتوازن، يمكن قراءة الحراك الدبلوماسي السوري الأخير في واشنطن ضمن سياق
جديد من الواقعية السياسية الواعية، التي تدرك أن السياسة ليست شعارات، بل مصالح
تُدار بحكمة لا تُفرّط بالثوابت.
فزيارة الرئيس
أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة حملت دلالات مهمة، عكست وعياً متزايداً بضرورة
الانفتاح المدروس، لا الانغلاق المتوجس، وبناء التعاون فيما يُتفق عليه، مع سيادة
الحوار بدل الاستعداء والمواجهة.
وكان لقاء
الرئيس السوري مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي برايان ماست
مثمراً في ذات الإطار، إذ فتح باباً للتفاهم حول قضايا الأمن الإقليمي، ومكافحة
التطرف، وإعادة الاستقرار إلى سورية عبر تغيير موقف الرجل في ملف إلغاء عقوبات
قانون «قيصر».
كما شكّل لقاؤه
مع الجالية السورية في أمريكا محطة لافتة، إذ ضمّ الاجتماع عدداً من المعارضين
للسلطات الجديدة في سورية، حيث تمكَّن الشرع من كسر الجليد وإعادة بناء الثقة على
أساس الحوار والمصلحة الوطنية المشتركة.
ولعل أبرز ما
يلفت النظر أن اللوبي السوري في الولايات المتحدة يتكوّن من فسيفساء واسعة؛ من
أكراد، وعرب، ومسلمين، ومسيحيين، ودروز، ومن مختلف التيارات الفكرية والسياسية،
يجمعهم دعم الإدارة الجديدة بدافع الإيمان بوحدة الأرض السورية وحق الشعب في
الحرية، وهذا التنوع في حد ذاته مؤشر إيجابي على نضج الوعي الوطني، واتساع دائرة
الانتماء على حساب الانقسامات الأيديولوجية.
أما اللقاء الذي
جمع الرئيس أحمد الشرع بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب، فقد ترك انطباعات إيجابية
لدى الجانبين، أبرزها أن العداء لا يثمر استقراراً، وأن أمن المنطقة والعالم يقتضي
توحيد الجهود لمحاربة التطرف ومنع الفوضى ووقف نزيف المهاجرين وتجارة المخدرات،
بما يصب في مصلحة الجميع.
السياسة بين المبدأ والمصلحة
إن العلاقات
الدولية في فقه الواقع تُبنى على قاعدة المصالح المشتركة لا الإملاءات المسبقة،
وعلى المرونة لا التبعية، وقد تقتضي أحياناً تقديم بعض التنازلات التكتيكية لتحقيق
المصلحة الكبرى، لكنها لا تبلغ حد التفريط بالمبادئ أو التنازل عن الحقوق الثابتة.
ومن هنا، نجد أن
السياسة السورية الحالية تسير وفق فقه قبل أن تكون شعارات، ورؤية قبل أن تكون
عاطفة، تمضي بخطوات واثقة نحو استعادة الدور السوري في المنطقة، في توازن بين
الأصالة والواقعية.
السياسة الشرعية.. فن الممكن في إطار المبدأ
بعد مائة عام من
انتهاء الخلافة الإسلامية وتبدّل الظروف والأنظمة، يمكن تعريف السياسة الشرعية
بأنها فنّ الممكن في إطار المبدأ؛ ليست مفاصلة دائمة ولا مهادنة عمياء، وإنما سعي
لتحقيق المصلحة العليا للأمة دون أن تُباع القيم أو يُفرّط بالحقوق.
تلك هي السياسة
التي نحتاجها اليوم؛ سياسة تقرأ النص بفقه، وتفهم الواقع ببصيرة، وتوازن بين
الثابت والمتغير؛ لأن الإسلام لم يأتِ ليُقصي العالم، بل ليُقيم العدل فيه.