المقاطعة ليست غضباً.. بل وعياً يبني العدالة

المقاطعة الاقتصادية ليست فعلاً غاضباً
يُولد من رحم الألم وينطفئ مع أول موجة هدوء، بل يمكن أن تكون مشروعاً واعياً يعيد
تشكيل وعينا الجمعي تجاه العدالة والاستهلاك والمسؤولية، غير أن الواقع يُظهر أنها
تتحرك غالباً بدافع الانفعال لا الرؤية، فتشتعل في أوقات الأزمات ثم تخفت تدريجياً
حين تهدأ الأحداث، هذه الدورات من الحماسة والانطفاء تكشف أننا ما زلنا نتعامل مع
المقاطعة كرد فعل، لا كفعل حضاري متجذر في قيمنا.
حين تقع مأساة، يتوحد الناس بالغضب،
وتتحول المنصات إلى ميادين تضامن، تنطلق الحملات، وتُرفع القوائم، وتتعالى الدعوات
إلى المقاطعة، لكن ما إن تخفت الأضواء حتى يتراجع الاهتمام وتذوب الحماسة، ليس لأن
الناس نسوا القضية، بل لأن المقاطعة لم تُبنَ على وعي مستمر يجعلها سلوكاً ثابتاً
لا موجة عابرة.
ولكي تستمر المقاطعة، لا بد من تحويلها
من موقف سلبي إلى فعل إيجابي، فبدل أن نسأل: من نقاطع؟ علينا أن نسأل: من ندعم؟
بهذا التحول، تصبح المقاطعة وسيلة لبناء اقتصاد أخلاقي يدعم المنتجين الشرفاء،
ويكرّم البدائل المحلية، ويجعل من كل عملية شراء فعلاً للعدالة.
الوعي هنا هو المحرك الحقيقي؛ أن يشتري
الإنسان بعقله وضميره لا بعاداته أو شهواته الاستهلاكية، أن يدرك أن قراره البسيط
في متجر أو تطبيق لبنة في بناء أكبر، وأن الامتناع عن منتج ظالم لا يقل أهمية عن
دعم منتج عادل.
ولكي تحيا الفكرة، تحتاج إلى سردية جديدة
وزخم رقمي مستدام، لا يكفي الغضب؛ نحتاج إلى قصص نجاح، ومحتوى توعوي، ومقارنات بين
البدائل، ومبادرات تُشعر الناس أن التغيير ممكن، وأن أثرهم ملموس، كما يجب أن
تتحول المقاطعة إلى عمل منظم، لا هبّة فردية، عبر منصات موثوقة توثّق الشركات
وتحدث القوائم وتبني شبكة تعاون بين المستهلكين والمؤسسات.
حينها فقط، تصبح المقاطعة جزءاً من ثقافة
يومية لا مناخاً عاطفياً مؤقتاً، تصبح طريقة في العيش، لا رداً على حدث، فالقوة
الحقيقية ليست في الغضب اللحظي، بل في القرار الهادئ الذي يقول: أنا لا أستهلك إلا
ما يعبر عن قيمي.
المقاطعة بهذا المعنى ليست حرماناً ولا
غضباً، وإنما وعي يبني العدالة، خطوة بخطوة، من سلوك فردي متزن إلى موقف جماعي
يصنع الفارق.