المسلم بين فتن الإعلام الرقمي وصناعة الوعي

لم يعد الإعلام في عصرنا مجرد وسيلة لنقل
الأخبار أو الترفيه، بل تحوّل إلى قوة هائلة في تشكيل العقول والقلوب وصناعة الوعي
الجمعي، حتى صار أخطر من السلاح في كثير من الأحيان.
فاليوم، بضغطة زر أو مقطع قصير على منصات
التواصل، يمكن أن يُشوّه دين، أو يُسقط رمز، أو يُغيّر مزاج شعب بأكمله.
وهذا الواقع يُلزم المسلم أن يكون يقظاً،
متبصراً، يتعامل مع ما يتلقاه وفق ضوابط الشرع، حتى لا يقع فريسة للتضليل أو
التلاعب بالعقول، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6).
فالأمر بالتثبت هنا قاعدة خالدة، تتجدد
أهميتها في زمن «الخبر العاجل»، و«المقطع المقتطع».
الإعلام قوة ناعمة أخطر من الرصاص
لم تعد الحروب المعاصرة تبدأ من ميادين
القتال فقط، بل كثير منها يبدأ عبر وسائل الإعلام، فقبل أن تنطلق الصواريخ تُطلق
الشائعات، وقبل أن تُفتح الجبهات يُهيَّأ الرأي العام عبر صناعة صورة ذهنية معينة،
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أثر الكلمة حين قال: «وهل يكب الناس في النار
على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» (رواه الترمذي).
فالكلمة قد تقتل وتُحرك جيوشاً، والكلمة
قد تُحيي أمة وتبني وعياً، وهنا يبرز السؤال: هل المسلم اليوم يعي خطورة الكلمة الرقمية التي يتلقاها أو يشاركها؟
الفتن الرقمية وامتحان الإيمان
يعيش المسلم في بحر متلاطم من الأخبار،
والصور، والمقاطع القصيرة التي تُصاغ بعناية لتؤثر على وعيه ومشاعره، وأخطر ما في
ذلك أن الفتن الإعلامية قد تُزيّن الباطل في صورة الحق وتُلبس الحق لباس الباطل.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا
حين قال: «سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب ويُكذّب فيها
الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما
الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (رواه ابن ماجة).
وهذا الوصف ينطبق تماماً على حال كثير من
«المؤثرين الرقميين» الذين يملكون ملايين المتابعين، ويُشكّلون عقول الشباب دون
علم أو بصيرة.
صناعة الوعي مسؤولية كل مسلم
المسلم ليس متلقياً سلبياً، بل هو صاحب
رسالة، وقد أمرنا الله بأن نكون شهداء على الناس: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: 143).
فالواجب على المسلم أن يُسهم في صناعة
الوعي الصحيح من خلال نشر المعلومة الموثوقة، والتصدي للشبهات، والرد على حملات
التشويه التي تستهدف الإسلام وأهله، وأبسط ذلك ألا يُعيد نشر خبر لم يتحقق منه، أو
لا يُسهم في ترويج مادة هابطة تقتل القيم والأخلاق.
الإعلام الرقمي وسلاح التضليل ضد القضايا الإسلامية
لقد كان للقضية الفلسطينية مثلاً نصيب
كبير من الاستهداف الإعلامي، حيث يتم تصوير المقاومة على أنها «إرهاب»، في حين
يُقدَّم المحتل على أنه مدافع عن النفس! وهذا قلب للحقائق لا يخفى على ذي بصيرة،
وقد قال الله تعالى: (وَلَا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:
42).
ومن هنا، فإن نصرة القضايا الإسلامية
العادلة لا تكون فقط بالسلاح أو المال، بل أيضًا بالكلمة الصادقة، والصورة النقية،
والمعلومة الموثوقة التي تكشف زيف التضليل الإعلامي.
نماذج مشرقة في توظيف الإعلام
رغم خطورة الإعلام، فإنه أداة يمكن
توظيفها في الخير كما يمكن توظيفها في الشر، فقد استطاعت قنوات بديلة ومنصات
شبابية أن تُسهم في كشف جرائم الاحتلال في غزة، وأن تنقل للعالم صورة حية من
الميدان لم تكن لتظهر عبر الإعلام التقليدي المنحاز، وهذا يذكّرنا بقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «مَن رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم).
والإعلام الرقمي اليوم من أعظم أدوات «التغيير
باللسان»، وهو ميدان متاح لكل مسلم يمتلك حساباً على وسائل التواصل.
كيف يتعامل المسلم مع الإعلام؟
يمكن تلخيص الواجبات العملية للمسلم في
التعامل مع الإعلام الرقمي في عدة نقاط:
1- التثبت قبل النشر أو المشاركة.
2- توظيف الإعلام لنصرة الحق وخدمة
القضايا العادلة.
3- تجنب المواد الهابطة التي تميت القلب
وتضيّع العمر.
4- صناعة محتوى نافع ولو كان بسيطاً،
كآية أو حديث أو كلمة حق.
5- الوعي بالخطاب الخفي الذي يحاول دس
السم في العسل عبر مسلسلات أو مقاطع قصيرة أو دعايات.
إن المسلم اليوم يواجه فتنة الإعلام التي
قد تكون أشد خطراً من السيف؛ لأنها تُغير القلوب وتُعيد تشكيل الوعي، وقد أوصانا
النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي
أبداً؛ كتاب الله وسُنتي» (رواه الحاكم).
فالنجاة في هذا البحر المتلاطم من
المعلومات لا تكون إلا بالاعتصام بالوحيين، والوعي والبصيرة، حتى يبقى المسلم
ثابتاً على الحق، واعياً بخطورة الكلمة والصورة، مساهماً في نصرة أمته بالحق، لا
أداة بيد خصومها.
وبذلك يُصبح الإعلام الرقمي ساحة جهاد
جديدة، جهاد بالكلمة والصورة، يحتاج إلى صبر وحكمة، ويُعد امتداداً لواجب المسلم
في نصرة دينه والدفاع عن أمته في كل زمان ومكان.