المحكمة الجنائية الدولية.. العدالة أم سراب الأقوياء؟

لؤي صوالحة

06 نوفمبر 2025

56

في عالم يُقتل فيه الأطفال أمام الكاميرات، وتُنهب الأرض، والحجر، باسم "القانون الدولي"، تظهر المحكمة الجنائية الدولية كرمز مضلل للعدالة.

لكن العدالة ليست مجرد شعارات على الورق، ولا بيانات مكتوبة لتجميل وجه العالم.

المحكمة اليوم ليست سوى مرآة للعجز الأخلاقي، للانحياز السياسي، للجبن القانوني أمام الجلاد.

كل يوم يمضي، كل طفل يُقتل، كل قرية تُدمر، تكشف الحقيقة البسيطة:

القوة اليوم تصنع القانون، والعدالة مجرد ديكور.

محكمة بدون غطاء دولي

تأسست المحكمة في روما عام 1998م وسط هتافات عالمية، ووعود بأن "العصر الجديد للعدالة" قد بدأ.

لكن هذه البداية كانت مجرد خدعة.

الولايات المتحدة رفضت الانضمام، "إسرائيل" امتنعت، وروسيا والصين تحفظتا.. فمنذ البداية، وُلدت المحكمة عاجزة، تعتمد على من قد يكون الجاني ذاته لتطبيق القانون.

المحكمة لم تُنشأ لحماية الإنسانية، بل لحماية مصالح القوى الكبرى، لتصبح بذلك سيفًا مسمومًا يهدد الضحايا دون أن يلمس المجرمين الأقوياء.

العدالة الانتقائية.. الضحية صامتة والقاتل فوق القانون

إحصاءات المحكمة تكشف الواقع: أكثر من 80% من القضايا ضد قادة أفارقة.

لا زعماء غربيون، ولا مسؤولون "إسرائيليون" يُحاسبون على الجرائم التي ارتكبوها في العراق وأفغانستان وغزة.

العدالة هنا ليست عمياء، بل مُصممة لتُحكم على المقهور فقط.

تختار المحكمة من يُدان ومن يُعفى وفق مصالح القوى، وليس وفق حجم الجريمة أو عدد الضحايا.

فلسطين.. مرآة انحياز المحكمة وانتقائيتها المكشوفة

انضمام فلسطين إلى المحكمة في 2015م، كان شعاع أمل ضئيل في الظلام.

لكن تسع سنوات مرت، وما زالت الملفات تتراكم، والجرائم تُرتكب يوميًا بلا محاسبة.

في غزة وحدها، قُتل عشرات الآلاف، وتم قصف المستشفيات والمدارس، ومع ذلك لم تُصدر المحكمة مذكرة توقيف واحدة ضد أي مسؤول "إسرائيلي".

البلاغة الرسمية عن "القلق" و"الإدانة" لم تُغير شيئًا.

صمت المحكمة ليس عجزًا، بل خوف سياسي من مواجهة الحقيقة التي ستفضح مصالح القوى وتكشف تواطؤها مع الاحتلال.

فلسطين اليوم ليست مجرد قضية قانونية، بل محك يقيس شجاعة المحكمة وأخلاقها.

ازدواجية المعايير.. أوكرانيا نموذجاً

تكشف قضية أوكرانيا ازدواجية المعايير لدى المجتمع الدولي والمحكمة الجنائية الدولية، فحين اندلعت الحرب في أوكرانيا، تحركت المحكمة بسرعة مذهلة ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

في غضون أيام صدرت مذكرة توقيف، بينما في فلسطين، حيث ترتكب المجازر يوميًا، تُجمّد الملفات بلا سبب سوى تحالف "إسرائيل" مع القوى الكبرى.

في أوكرانيا، القاتل خصم الغرب.

في فلسطين، القاتل حليف الغرب.

هنا يتضح الفرق بين العدالة المزعومة والعدالة الحقيقية: الأولى تُدار وفق المصالح، والثانية تُقاس بجرائم القتل ودم الضحايا.

المحكمة أداة استعمارية بالقانون

الغرب الذي أسس المحكمة هو ذاته الذي دمّر العراق وأفغانستان، وحاصر غزة وغطّى الانتهاكات في ليبيا وسورية.

المحكمة اليوم ليست سوى أداة لتبرير الهيمنة، تدين الضعفاء وتبرئ الأقوياء.

حين أصدر القضاء الدولي مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير، تحرك بسرعة.

أما جرائم الولايات المتحدة و"إسرائيل"، فلم تُفتح ضدها أي قضية.

القوة تصنع القانون، والعدالة مجرد ديكور، والذين يملكون المال والسلاح هم من يكتبون البروتوكولات.

الجزء الغائب.. العجز البنيوي أم الجبن المؤسسي؟

تُقال الأعذار: المحكمة بلا جيش وتعتمد على تعاون الدول.

لكن الحقيقة أنها تتحرك متى أرادت وتختبئ متى خافت.

محكمة تعرف أن محاسبة "إسرائيل" أو أمريكا ستحدث زلزالًا سياسيًا، لذلك تفضل الصمت.

إنها تمثال من ورق، يتحدث عن الأخلاق، ويخدع العالم بلغة "الالتزام بالقانون"، بينما الواقع يكشف خداعها يوميًا.

العدالة الحقيقية تبدأ من الشعوب لا القاعات الرسمية

ليست العدالة ما يُكتب في بروتوكولات لاهاي، بل ما يُصنع في وعي الشعوب.

العدالة تحمي المقهور، وتكشف الحقائق، وتعيد تعريف القوانين بما يليق بالإنسانية.

الفلسطينيون يعرفون من القاتل، ويعلمون أن أي محكمة دولية لن تُعيد الحق إلا إذا ضغطت إرادة الشعوب.

العدالة التي نريدها تحررية وإنسانية، لا سياسية واستعمارية.

آخر معاقل العدالة

في زمن تُباع فيه العدالة، تصبح الكلمة الحرة هي السلاح الأخير.

كل بيان، كل تقرير، كل صورة، كل شهادة، هي جندي في معركة العدالة الحقيقية.

الكلمة تفضح المجرم، وتعيد تعريف العدالة خارج مكاتب لاهاي الباردة، وتحمي ضحايا الأرض من النسيان.

العبر التاريخية: بغداد ـ الخرطوم ـ غزة

في العراق، ارتكبت جريمة القرن باسم "الديمقراطية".

في السودان، أُصدرت مذكرة توقيف بحق عمر البشير، بينما الطائرات الأمريكية تحلق بلا مساءلة.

في غزة، تُرتكب المجازر يوميًا بلا تحرك فعلي من المحكمة.

كل ذلك يكشف أن المحكمة ليست عاجزة فحسب، بل متواطئة، لأنها تعرف أن محاسبة الأقوياء تعني نهاية وجودها.

من سيحاسب المحكمة نفسها؟

سؤال يجب أن يُطرح على كل إنسان مؤمن بالعدالة:

من سيحاسب المحكمة على صمتها، على انتقائيتها، على تحوّلها إلى أداة للهيمنة؟

العدالة الحقيقية لا تخاف من الحقيقة، لكن المحكمة اليوم تخاف من الشعوب، الصحفيين، الصور، والوعي.

كل صوت حر هو محكمة بديلة تُدين الجلاد وتعيد صياغة العدالة خارج قوانين لاهاي الباردة.

هناك عدالة لا يُقهرها أي فيتو: عدالة الوعي، عدالة الذاكرة، وعدالة التاريخ.

العدالة تبدأ بالكلمة، بالوعي، وبالشجاعة على قول الحقيقة مهما كان الثمن.

 

 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة