الدعوة العملية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

من المقرر لدى علماء الدعوة الإسلامية أن هدف الدعوة إلى الله تعالى الترقي بالمدعوين، والتحول بهم من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، أو ترك حق بداخل المدعو المعاند يصارع الباطل(1).

وهذا الهدف العظيم يتحقق بعد عون الله تعالى عن طريق:

أولاً: الدعوة القولية: قيام الداعية بشرح مضمون رسالة الإسلام للناس وتبليغ تعاليم الدين تبليغاً قولياً.

ثانياً: الدعوة العملية: قيام الداعية بأعمال إيجابية تخدم الدعوة وترقى بالمدعوين من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن.

فلا غنى للداعية الذي يبغي النجاح لدعوته عن البلاغ المبين، والعمل النافع والمشاركة الإيجابية.

وفي واقع الدعوة أحوال كثيرة تكون فيها الدعوة العملية أكثر نجاحاً وأسرع وصولاً إلى الهدف، يقول الشيخ محمد الغزالي: «وقد رأيت بعد تجارب عدة أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة!

إنه من العسير جداً أن تملأ قلب إنسان بالهدى، إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس من التقوى، إذا كان بدنه عارياً، إنه يجب أن يؤمَّن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان، ثم ينتظر بعدئذٍ أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان.. كثيراً ما وجدتني أعالج وعظ الناس في بيئات صرعها الفقر والمرض والجهل، فكنت أحار؛ ماذا أقول لهم(2)؟!

إن واجب الدعاة ألا يكتفوا بمجرد الوعظ الديني على المنابر ومحاريب المساجد -على أهمية ذلك وعظيم أثره- لكن عليهم أيضاً أن ينخرطوا في مجتمعهم بالتفقد لأحوال مدعويهم، والسعي الدؤوب قدر الطاقة لنفعهم وإصلاحهم.

النبي رائد الدعاة في الدعوة العملية

فالباحث في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه لم يكن كثير الكلام، كثير الوعظ بقدر ما كان كثير العمل والحركة النافعة.

فقد كان كما ذكر ابن مسعود: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا»(3)؛ يتحرى بعض الأوقات دون بعض.

وتقول عنه السيدة عائشة رضي الله عنها: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لو عَدَّهُ العَادُّ لأَحْصَاه»(4)، وكان صلى الله عليه وسلم يعبر عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة، وذكر هو أن من خصائصه النفسية أنه: «أوتيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ»(5)، وأحاديثه المروية في الصحيحين محدودة العدد، ففي صحيح البخاري 4 آلاف حديث(6)، وفي صحيح مسلم 4 آلاف حديث(7).

ومن الممكن أن نصل بعدد الأحاديث إلى 8 آلاف حديث لما عساه أن يكون قد صح في الكتب الأخرى غير البخاري، ومسلم.

فلو قسمنا عدد الأحاديث (8000 حديثًا) على عدد الأيام التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى (8280 يوماً)، لكان الناتج حديثًا واحًدا في اليوم تقريباً.

وقد قال بعض أهل العلم: إن عدد الأحاديث الصحيحة ضعف هذا العدد؛ أي 16 ألف حديث، فتكون النتيجة حديثين كل يوم، ومهما ضاعفنا هذا العدد من الأحاديث فلن تشغل ساعة كاملة من اليوم النبوي؛ ومعنى ذلك أن أقل القليل من وقت النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفقه في الدعوة القولية، بينما كان ينفق جُل وقته في الدعوة العملية.

يوم النبي.. كيف يقضيه؟

فإذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سحابة يومه وجدته إما أنه يصلح بين حيين من أحياء العرب متخاصمين باذلاً الوقت والجهد لرأب الصدع وسد منافذ الفتن، كما روى الإمام البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي: أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم(8).

أو وجدته يتفقد حال صاحب له قد بدت عليه أمارات الحزن فيدنو منه ويناجيه: «يا جابرُ، ما لي أراكَ منكسِرًا؟»، قال: يا رسولَ اللَّهِ، استُشْهِدَ أبي، وترَكَ عيالًا ودَينًا، قالَ: «أفلَا أبشِّرُكَ بما لقيَ اللَّهُ بِهِ أباكَ؟»، قال: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: «ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابِه وأحيى أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا فقالَ: يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ قالَ: يا ربِّ تُحييني فأقتلَ فيكَ ثانيةً قالَ الرَّبُّ تبارك وتعالَى: إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لَا يُرجَعونَ قالَ: وأُنْزِلَت هذِهِ الآيةُ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا)»(9)، ثم أعانه صلى الله عليه وسلم بكل ما استطاع في قضاء دين أبيه(10).

أو وجدته صلى الله عليه وسلم يساعد صحابيًا في زواجه بعطاء يمنحه ليقطع عنه خطوات الشيطان، كما روى الإمام أحمد في مسنده: أنه صلى الله عليه وسلم أعان ربيعة الأسلمي في تزويجه، وكان من أهل الصفة؛ بالشفاعة له عند الزوجة وأهلها، وبالصداق، وبالوليمة من اللحم والخبز، ثم أعطاه أرضاً(11).

أو وجدته صلى الله عليه وسلم يعين مهموماً قد ركبه دَيْن أقضّ مضجعه وأسال دمعه، فيفتح في وجهه باب الأمل، ويغلق عنه باب اليأس، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع سيدنا سلمان الفارسي؛ حين خلصه من الرق عند اليهودي، وأعانه على مكاتبته بثلاثمائة نخلة، وقام صلى الله عليه وسلم بزراعتها له بيديه الكريمتين، كما أعانه على تسليم أربعين أوقية(12).

أو وجدته صلى الله عليه وسلم يعطي فقيراً لزمته كفارة إطعام ستين مسكيناً والفقير لا يملك إطعام نفسه فيعينه النبي صلى الله عليه وسلم على أمر دينه، كما فعل مع الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فلما لم يجد ما يحرر به رقبة ولم يستطع صياماً ولا إطعاماً أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عرقاً فيه تمر، وقال أطعم هذا عنك، قال: على أحوج منا! ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، قال: فأطعمه أهلك(13).

أو وجدته صلى الله عليه وسلم يصطحب معه إلى بيته نفراً من أهل الصفة؛ ليطعمهم في بيته من طعام أو شراب، فيرجعون فرحين مسرورين، كما فعل مع سيدنا أبي هريرة وأهل الصفة(14).

أو وجدته صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم كثيرة، فيعطي هذا، ويعطي هذا، حتى يشهدوا بقلوبهم قبل ألسنتهم قائلين: «ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، لا إله إلا الله محمد رسول الله»(15).

وهكذا تتعدد مشاهد الدعوة العملية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنها لتشغل معظم وقته الشريف.

ولنا أن نتأمل فيما قاله أحد من نالهم جوده وسخاؤه: «لقد أعطاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ «حُنينٍ» وإنَّه لَمِن أبغضِ النَّاسِ إليَّ فما زال يُعطيني حتَّى إنَّه لَأحبُّ الخَلقِ إليَّ»(16).

إن مجرد الإحسان إلى المدعو أو الاعتناء به قد يكون سببًا رئيسًا في استقامته وكفه عن الرذائل.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ينطق بهذا المعنى تماماً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال رجل: لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق عليَّ سارق! فقال: اللهم لك الحمد على سارق لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية؛ فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على زانية! فقال: اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة، فخرج فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني! فقال الرجل: اللهم لك الحمد على سارق، وزانية، وغنى، فقيل له: أما صدقتك على سارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله»(17).

فإذا كانت صدقة واحدة تفعل ذلك وترقى بهؤلاء المدعوين وتصلح من أحوالهم، فماذا تكون الحال لو جعل الداعية من الصدقة ديدناً، ومن الإحسان سبيلاً، ومن خدمة المدعوين منهجاً وطريقاً؟

وتلك هي الدعوة العملية المنشودة.


اقرأ أيضا:

تعلم فقه الدعوة من الرسول

حرص النبي على هداية قومه


_______________________

الهوامش

(1) منهج الدعوة إلى الله تعالى: د. حسين مجد خطاب، ص 23، مكتبة الأزهر الحديثة طنطا 1997م.

(2) الإسلام والأوضاع الاقتصادية، الشيخ محمد الغزالي، ص61. دار الصحوة للنشر 1986م.

(3) صحيح البخاري (68).

(4) صحيح البخاري (3567)، وصحيح مسلم (3493).

(5) صحيح مسلم (523).

(6) مقدمة ابن الصلاح: الإمام ابن الصلاح ص 10، 11، ط مكتبة المتنبي بالقاهرة.

(7) تدريب الراوي: الإمام عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ج2، ص 104، ط دار الرياض الحديثة، ط2.

(8) صحيح البخاري (625).

(9) الترمذي (3010).

(10) القصة مستفيضة في صحيح البخاري (2127)، وفي كتب السُّنة.

(11) قال عنه الحافظ الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وفيه مبارك بن فضالة، وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد، ج4، ص 257).

(12) مسند الإمام أحمد (23788)، وقال الشيخ الألباني حسن، انظر: السلسلة الصحيحة (894).

(13) صحيح البخاري (1835).

(14) صحيح البخاري (6087).

(15) المغازي: الإمام الواقدي، (1/ 345)، عالم الكتب بيروت، ط الثالثة، 1984م.

(16) صحيح ابن حبان: عن صفوان بن أمية (4828).

(17) صحيح الإمام البخاري، كتاب «الزكاة» باب «إذا تصدق على غني وهو يعلم» (1421).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة