مصطلح «العَلمانية» بين النظرية والتطبيق.. أوروبا نموذجاً (2 - 3)

الحرية الدينية والتطبيق الانتقائي

د. أحمد عيسى

09 أكتوبر 2025

84

هل تفي أوروبا بشرط العَلمانية الأول وهو الحرية الدينية للجميع، أم أن ذلك شرط انتقائي، فتكبل تلك الحرية على من تريد من مواطنيها؟ هل فصلت أوروبا الدين عن الدولة مطلقًا أم قيدته عن مسلميها؟

لقد عرّى العدوان على غزة هذه الحرية في أوروبا من خلال تبني بعض وسائل الإعلام الأوروبية سردية دولة الاحتلال إمعانًا في اتهام المسلمين مما يؤجج العنصرية ضدهم، واستخدمت الشرطة العنف ضد المتظاهرين المناصرين لغزة وهي قضية إسلامية تهم المواطنين، والقبض على بعضهم في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا، وقمع الحق في التظاهر في النمسا والمجر وسويسرا.

العلمانية والحرية الدينية

إذا كانت العلمانية تعني في المقام الأول عدم كفاءة الكنيسة في الشؤون العامة، فإنها تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي، فالحرية الدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائها تنتفي العلمانية من أساسها، والدولة العلمانية ليست دولة لا دينية، بل دولة لا طائفية، ليست هي الدولة التي تنكر الدين، بل التي لا تميّز دينًا على دين(1).

فنظريًا يجب أن تترك الدولة المجال لحرية العقيدة، لكن تطبيق ذلك في أوروبا تشوبه الشوائب.

والحرية الدينية لها آليات منها حرية التعبير وحرية ممارسة الشعائر، والحماية من خطاب الكراهية، وعدم التمييز وعدم إصدار قوانين تحد من الحرية الدينية.

التزامات لا تطبق

والواضح أن التزامات الاتحاد الأوروبي التي قطعها تجاه حرية التعبير لا تطبق، بما في ذلك قانون التشهير والخصوصية، وحرية المعلومات، والحرية الرقمية وحرية الإعلام، وتجريم خطاب الكراهية، فدول مثل إيطاليا والمجر واليونان ورومانيا تتخلف عن الديمقراطيات العالمية الناشئة في هذه المؤشرات، وهناك عدد من التحديات التي تواجه حرية الإعلام، مثل أنماط ملكية وسائل الإعلام والتنظيم الوطني لها، والضغوط السياسية والحكومية في توجيهها، وفشلها في حماية التعددية.

وتختلف قوانين خطاب الكراهية، وتفسيراتها، بين دول أوروبا من حيث تأثيرها على حماية حرية التعبير، ففي بعض البلدان، مثل بولندا وفرنسا، لا توفر قوانين خطاب الكراهية حماية كافية لحرية التعبير(2).

وتراجعت دولة من كل ثلاث دول في حرية الصحافة، بما في ذلك إيطاليا، التي استخدمت وكالات استخباراتها برامج تجسس ضد نشطاء حقوق المهاجرين والصحفيين، وأغلقت سلوفاكيا هيئة الإذاعة العامة المستقلة(3).

وشهد عام 2024م أعلى عدد لحالات الكراهية ضد المسلمين في بريطانيا، فوصلت إلى ما يقرب من 10 آلاف حالة مؤكَدة، ربعها عبر الإنترنت تشمل تداول صور معادية للمسلمين أنتجت بالذكاء الاصطناعي، وأشعل هذه الكراهية العدوان على غزة، وجرائم القتل التي أشاعت الجماعات العنصرية كذبًا أن المسلمين المهاجرين وراءها(4).

سياسات تقييدية تنتهك الحرية الدينية

أظهر تقرير للجنة الحريات الدينية الدولية، حول المخاوف المتعلقة بالحرية الدينية في الاتحاد الأوروبي أن بعض الدول أبقت أو طبقت قوانين وسياسات تُقيّد حقوق الأقليات الدينية مما يشجع التمييز المجتمعي، وتشعر الأقليات الدينية بالاستهداف وعدم الترحيب وصعوبة عيش حياة تتوافق مع دينهم والقوانين المقيدة.

ومن الأمثلة البارزة لهذه السياسات التي تنتهك الحرية الدينية، القوانين التي تستهدف المسلمين خاصة، والقيود المفروضة على المساجد، وعلى الملابس الدينية، والذبح الشرعي، والتعليم المنزلي خاصة للفتيات.

وقد أصدرت دول في الاتحاد الأوروبي قوانين وانخرطت في ممارسات تحت مسمى «مكافحة الإرهاب والتطرف»؛ ما يؤثر على التعبير السلمي، خاصة عندما تُطرح هذه الممارسات الرسمية في سياق تعزيز القيم الوطنية أو الأوروبية، فتؤدي إلى وصم المسلمين دون غيرهم والتمييز ضدهم خلال خلق انطباع بأن دينهم يتعارض مع هذه القيم.

ففي فرنسا مثلًا، نص تعديل على قانون عام 1905م، المتعلق بفصل الدين عن الدولة، على أن الأئمة الذين يُدانون بتحريض الناس على تقويض القانون الفرنسي يواجهون غرامات تصل إلى 75 ألف يورو، والسجن لمدة 5 سنوات، والإغلاق المؤقت لمساجدهم وحظر الوعظ لـ10 سنوات.

واعتمدت الدنمارك سياساتٍ أثّرت بشكل ضاغط على المجتمعات المسلمة، فمنذ عام 2018م، صنّفت السلطات الأحياء التي يقطنها غالبية من مهاجرين «غير غربيين» على أنها «غيتوهات» وأخضعتها لسياسات اندماج مختلفة، ثم غُير المصطلح إلى «المجتمعات الموازية»، وشدّدت العقوبات على الجرائم البسيطة في تلك الأحياء، وفرضت على الأوصياء إرسال أطفالهم إلى حضانة لمدة 25 ساعة أسبوعيًا لتعلم القيم الدنماركية والتقاليد المسيحية، وإلا سيواجهون غرامات، وأقرت قانونًا يحظر بعض التبرعات الأجنبية للمؤسسات الدنماركية، وإعداد قائمة بالمنظمات والأفراد الذين يُعتبرون مُقوّضين للديمقراطية، في خطوة يعتقد الكثيرون أنها مُصمّمة لاستهداف المساجد(5).

المسيحية والعَلمانية الأوروبية

ثلث دول العالم (64) أعلامها لها رموز دينية؛ نصفها (31) عليها رموز مسيحية(6).

وفي أوروبا يهيمن الصليب على أعلام بريطانيا وأيسلندا والنرويج، والدنمارك، والسويد، وسويسرا وفنلندا وجورجيا وسلوفاكيا وجزر الفارو، وداخل تصميم أعلام اليونان وإسبانيا ومالطا.

وأوروبا التي تتغنى بفصل الدين عن السياسة، غارقة في عكس ذلك، فالأحزاب العنصرية تستخدم العداء للمسلمين كورقة انتخابية، والأحزاب الديمقراطية «المسيحية» تحظى بنفوذ سياسي واسع، وليس غريبًا أن تحوز هذه الأحزاب (تسمى مجموعة حزب الشعب الأوروبي) حاليًا أكبر نسبة من أعضاء البرلمان الأوروبي (188عضوًا)(7).

وسبق أن تحالف حزب الاتحاد الديمقراطي وهم من المسيحيين الإنجيليين، مع حزب الشعب السويسري اليميني المتشدد، في إطلاق مبادرة حظر المآذن.

وفي بريطانيا حتى عام 1858م، لم يكن مسموحًا لغير المسيحي المعمّد أن يكون عضوًا في البرلمان، ومُنع اليهودي روتشلد 3 مرات من العضوية رغم فوزه في الانتخابات، ويخضع الملك (رغم أنه حامي الدين ورئيس الكنيسة) لسلطة الكنيسة، كما تجلى ذلك في إجبار الملك إدوارد الثامن عام 1936م، على التخلي عن العرش، فلم تجز أسقفية كانتربري زواجه من سيدة مطلقة، مع أن القوانين العلمانية تجيز الطلاق ولا تمانع في زواج المطلقة، والكنيسة في هذا المثال نقضت السلطة العَلمانية والسلطة الملكية.

يؤكد بن رايان، الباحث بجمعية الكتاب المقدس البريطانية، أن أوروبا قارة مسيحية، ويونانية، وديمقراطية؛ وأن المساحة المسماة أوروبا ليست شيئًا جغرافيًا، وما يحدد حدودها هو شيء ثقافي وفكري يتم تعريفه من خلال المسيحية والفلسفة اليونانية، وأن نوع العلمانية التي في أوروبا اليوم علمانية مسيحية، ولن تصبح أوروبا مساحة غير مسيحية لمجرد أن الناس أنفسهم لم يعودوا مسيحيين.

لكن بيتر مارجري، أستاذ علم الأعراق بجامعة أمستردام يرى بأنه يمكن تعريف أوروبا تاريخيًا على أنها قارة مسيحية، لكن هذه التسمية ليست دقيقة بالضرورة اليوم، ويؤيد ذلك الكثيرون؛ لأن أوروبا أصبحت بشكل متزايد قارة علمانية، موطنًا لعدد متزايد من الملحدين، الذين بدون دين، واللاأدريين (غير الملتزمين بالإيمان بوجود الله أو عدم وجوده)(8).

أصبحت أوروبا الغربية، حيث نشأت المسيحية البروتستانتية واستقرت الكاثوليكية في معظم تاريخها، من أكثر مناطق العالم عَلمانية؛ شعوبًا لا حكومات، فرغم أن غالبية البالغين يقولون: إنهم عُمِّدوا، فإن الكثيرين اليوم لا يصفون أنفسهم بالمسيحيين، ويقول البعض: إنهم ابتعدوا تدريجيًا عن الدين، أو توقفوا عن الإيمان بالتعاليم الكنسية، أو شعروا بالعزلة بسبب فضائح الكنيسة الجنسية والمالية ومواقفها من القضايا الاجتماعية، لكن ما تقوم به بعض الدول والجماعات والأحزاب العنصرية في أوروبا من العداء السافر للإسلام والمسلمين سيهدم ما تبقى من العَلمانية المزعومة للحكومات!




__________________

(1) جورج طرابيشي، الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الإنماء العربي، 1988، ج2/ 914.

(2) Index on Censorship, Time to step up: The EU and freedom of expression, 2013.

(3) IDEA, The Global State of Democracy 2025.

(4) Tell MAMA, Records the Highest Number of Anti-Muslim Hate Cases in 2024, 19 February 2025.

(5) US commission on international religious freedom: Religious freedom concerns in the EU, July 2023.

(6) Pew research center, 64 countries have religious symbol ls on their national flags, 25 November 2014.

(7) European parliament, the political groups of European Parliament, 16 July 2024.

(8) Debating Europe, Is Europe a Christian continent? 22 June 2015.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة