الثقافة الإسلامية في مواجهة الذكاء الاصطناعي.. صراع قيمي ورؤية للمستقبل

ثورة غير مسبوقة يشهدها العالم في مجال التقنيات
والذكاء الاصطناعي وما يعرف بالخوارزميات، ثورة لا تتوقف عند حدود التكنولوجيا وحسب،
بل تمس كل ما يحيط بجوهر الإنسان من قيم وأخلاق وهوية.
ففي الوقت الذي قدم فيه الذكاء الاصطناعي
وعوداً بتسهيل الحياة اليومية وتطوير الاقتصاد والمعرفة، فإذا به يطرح تحديات عميقة
على المستوى الأخلاقي والثقافي، ويزيد من هوة الصراع على الهوية.
وفي مواجهة التيار الشديد الذي يواجهه العالم
العربي والإسلامي، تقف الثقافة الإسلامية في قلب المعرفة القيمية والأخلاقية بما تحمله
من مبادئ قوية ورؤية متوازنة للإنسان والعالم والكون، كمرجعية أصيلة قادرة على أن تمنح
العرب والمسلمين البوصلة في مواجهة تيار العولمة التقنية الجارف.
فلمن يمكن أن تكون الغلبة؟ للدين والشريعة
بمجموعة القيم التي تحملها؟ أم العلمانية بأدواتها التي انتشرت في كل بيت، ولم يعد
هناك سبيل للوقوف أمامها أو السيطرة عليها؟
أولاً: تعريف الثقافة الإسلامية وماهيتها:
تتعدد تعريفات الثقافة الإسلامية، ويرجع ذلك
إلى حداثة المصطلح واهتمام العديد من العلماء به، واختلاف تصوراتهم حوله، ومن أوضح
تعريفاتها أنها: معرفة مقومات الأمة الإسلامية العامة بتفاعلاتها في الماضي والحاضر،
ويشمل ذلك الدين، واللغة، والتاريخ، والحضارة، والقيم، والأهداف المشتركة بصورة واعية
هادفة(1).
وبهذا، فالثقافة الإسلامية ليست مجموعة من
المعارف، بقدر ما هي مجموعة من المعتقدات والسلوكيات والأخلاقيات والأحكام، فهي رؤية
توحيدية للوجود، حيث الله عز وجل هو الخالق، وهو الوحيد المستحق للعبادة، وهو الوحيد
القادر على تحقيق أدعية عباده، والإنسان مستخلف في الأرض، يدين بما يأمره به ربه، وينتهي
عما ينهيه عنه.
ثم هي قيم أخلاقية، كالعدل والرحمة والأمانة
والتكافل، ثم هي منهج معرفي، يوازن بين العقل والروح، وبين المادة والروح، وهي كذلك
هوية حضارية، تجعل الإنسان غاية في ذاته لا مجرد وسيلة متغيرة، يقول تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7}
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس)، في إشارة واضحة إلى أن للإنسان
بعداً أخلاقياًً روحيا يميزه عن غيره، وهذا البعد لا يمكن لأي آلة أن تحاكيه حتى ولو
كانت الذكاء الاصطناعي بكم المعلومات الهائل الذي يحمله.
وتعتمد الثقافة الإسلامية على 4 مصادر رئيسة،
هي(2): القرآن الكريم؛ وهو المصدر الأول للثقافة الإسلامية حيث يؤمن به
المسلم ويثق بأنه كلام الله ويتعبد بتنفيذ أحكامه وتلاوته، والسُّنة النبوية؛ وهي المصدر
الثاني للثقافة، وهي منهاج المسلم يعمل على تفصيل الأحكام، والتراث الإسلامي؛ وهو جميع
ما أنتجه المسلمون على مدى التاريخ الإسلامي من المعارف الكونية المتعلقة بالله عز
وجل منذ فجر الرسالة، هذا غير العديد من المصادر الأخرى يعتبر أبرزها الموروثات الاجتماعية
من الأعراف التاريخية المتفق عليها من علماء الأمة.
ثانياً: ثقافة الذكاء الاصطناعي.. ملامح وتحديات:
تتميز ثقافة الذكاء الاصطناعي بأنها استمرار
وبلورة للثقافة الغربية العلمانية، غير أن مركزيتها للتقنية، فتقدم الآلة كبديل عن
الإنسان في التفكير والإبداع، وتشترك مع العلمانية في النزعة المادية، حيث إن الذكاء
الاصطناعي ينبني على بيانات وخوارزميات، دون اعتبار للقيم أو الروح، وتتمحور نظرته
للإنسان كمستهلك للبيانات، أو مورد للمعطيات، لا ككائن يحمل مشاعر وقيماً وأخلاقاً،
وقد كرمه الله عز وجل على كل الكائنات الحية.
وقد أزاحت الثقافة التقنية كافة المعايير
الأخلاقية، كما في الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي قد ينتج محتويات غير أخلاقية أو
متحيزة، وهنا تظهر إشكالية جديدة يواجهها البشر في تلك الثقافة المستجدة، وهي من يتحمل
المسؤولية حين يخطئ الذكاء الاصطناعي؟ المبرمج الغربي الذي ما زال مهيمناً على تلك
الصناعة بما يحمله من أفكار، أم الآلة نفسها؟
وبالرغم من التقدم الهائل في أنظمة الذكاء
الاصطناعي، فإن الصورة النهائية له لم تبلغ مداها بعد، وما زال المجال مفتوحاً للمزيد
من التطور التقني، ومع ذلك، فإن هناك تحديات جمة تواجهه، من أهمها(1) التحديات
المتعلقة بالجانب الاجتماعي ومنه الحاجة لمعرفة التبعات التكنولوجية على سلوك الأفراد
والمجتمعات، وكذلك وقعها على العلاقات الإنسانية، وكذلك الأخلاقية.
ومن التحديات كذلك خاصة في العالم العربي،
محدودية الكفاءات التكنولوجية، فالأشخاص القادرون على البحث وتطوير تطبيقات الذكاء
الاصطناعي نادرون في الوقت الحالي مقارنة مع مجالات أخرى.
ثالثاً: التحدي القيمي بين الإسلام والذكاء الاصطناعي:
بالقيام بعملية مقارنة بسيطة من حيث الجانب
القيمي والأخلاقي، سنجد خلافات جذرية وعميقة:
- فمن حيث الكرامة الإنسانية: الإسلام يقرر أن الإنسان مكرم؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، بينما ثقافة الذكاء الاصطناعي قد تقلل من قيمة الإنسان أمام تفوق الآلة.
- من حيث المسؤولية الأخلاقية: في الإسلام، كل إنسان محاسب؛ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38)، أما الذكاء الاصطناعي فلا يملك ضميراً؛ ما يجعل المساءلة الأخلاقية منقوصة.
- من حيث المعنى والهدف: الثقافة الإسلامية
ترى أن الحياة لها غاية (العبادة)، بينما ثقافة الذكاء الاصطناعي قد تفرغ الحياة من
معناها وتحوّلها إلى بيانات وتحليلات.
رابعاً: دور الثقافة الإسلامية في حماية القيم الإنسانية:
يبدو أنه قد أصبح لزاماً على الأمة اليوم
أن تقف وقفة طويلة تستعيد فيها هويتها الأساسية، فالأمة التي بنت حضارتها على العقيدة
والأخلاق والعلم، لن تقوم الآن إلا بنفس المنهجية، خاصة في ظل تلك التحديات العظيمة،
التي صارت تهدد المعتقدات والثوابت.
ويتمحور دور الثقافة الإسلامية حول تقديم
بدائل ترضي التقدم العلمي الحادث بالفعل، وفي ذات الوقت تنطلق من أساس متين، وليس أحد
يستطيع تقديم تلك البدائل إلا الثقافة الإسلامية الشاملة، ومنها:
1- تقديم إطار أخلاقي بما تحمله من مقاصد
(حفظ الدين، النفس، العقل، المال، النسل) يمكن أن تكون أساساً لضبط استخدام الذكاء
الاصطناعي، هذه المقاصد تضع حدوداً لمنع توظيف الخوارزميات فيما يضر بالقيم الإنسانية،
مثل استخدامها في الحروب، على سبيل المثال.
2- إعادة مكانة الإنسانية لما يليق بها، فالإسلام
يرفض أن تختصر قيمة الإنسان في إنتاجيته، فالإنسان في الإسلام غاية وهدف، بينما في
الذكاء الاصطناعي مجرد أداة.
3- إعادة صياغة منهجية التعليم، فالعلم في
الإسلام عبادة، والسعي إليه سعي إلى الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك
طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له طريقاً إلى الجنة» (رواه مسلم)، فيمكن دمج الذكاء
الاصطناعي في التعليم مع التأكيد على التفكير النقدي والوعي الأخلاقي.
4- التوازن المطلوب بين العلم والروح، أو
بين المادة والروح، فالإسلام يستطيع أن يدمج بين العقل والإيمان، فإذا كان الذكاء الاصطناعي
يفتح أبواباً مختلفة ومتعددة ومتنوعة للمعرفة، فإن الثقافة الإسلامية تحمي هذه المعرفة
من الانحراف المادي وتوجهها نحو الخير والنور، مع الحرص على تشجيع الإنتاج في مقابل
الاستهلاك.
خامساً: نحو ثقافة تقنية إسلامية:
في الطريق نحو بناء ثقافة تقنية إسلامية يجب
تشريع قوانين مستمدة من المقاصد الشرعية لتنظيم الذكاء الاصطناعي وعدم تركه للعقلية
الغربية للتحكم به، وذلك بإنشاء مؤسسات إسلامية تدرس التقنية من منظور إسلامي.
كذلك يجب إعداد جيل من المهندسين والباحثين
القادرين على جمع المعرفة التقنية والتكوين الشرعي، على أن يكون ذلك تحت إشراف هيئات
إسلامية كالأزهر الشريف، أو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ويمكن كذلك إطلاق مبادرات
أخلاقية تستلهم روح الإسلام لفرض نوع من الهيمنة والسيطرة على كل ما هو جديد.
إن التطور العلمي والتقني والتكنولوجي صار
واقعاً لا يمكن الفكاك منه أو تجنبه، وقد دخل كل بيت مسلم تقريباً، وإنما قد وجب التعامل
معه وتطويعه ضمن منظومة القيم الإسلامية، فالرجوع إلى الخلف لم يعد ممكناً.
_________________
(1) أ.د. إبراهيم بن حماد الريس، أ.د. أحمد
بن عثمان المزيد، أ.د. خالد بن عبدالله القاسم وآخرون، «مدخل إلى الثقافة الإسلامية»
www.fac.ksu.edu.sa، ص11،12، اطّلع عليه بتاريخ 7/ 8/ 2018، بتصرّف.
(2) مهد فايز مهد يعقوب (13/ 9/ 2017)، «أهمية
الثقافة الإسلامية في ترسيخ قيم الثقافة التنظيمية».
(3) منظمة المجتمع العلمي العربي، مجلة «أجسر»،
بتاريخ 26 يناير 2021م.