التربية الوالدية من منهج خير البريّة

التشجيع والكلمات المحفّزة
القارئ الكريم، سبق بنا الحديث عن بعض الأسس
النفسية والوجدانية التي كان رسولنا المربّي صلى الله عليه وسلم يستخدمها في تربية
وإعداد الأبناء والبنات، واستكمالاً لما سبق، فإن من بين الأسس النفسية التي ترفع همم
نفوس الأولاد «التشجيع» وهو الأساس الثالث.
يعدّ التشجيع التربوي للأولاد من أساسيات
التربية النبوية للأولاد؛ فلقد كانت حماسة الشباب تزداد مع التشجيع النبوي لهم، ربما
لو انتبه آباء وأمهات اليوم إلى هذا الأساس لاستطاعوا حلّ كثير من المشكلات التربوية،
فما زلنا في واقعنا اليوم نسمع عن تثبيط الهمم في نفوس الأبناء، من إطلاق ألفاظ الغباء
والفشل والبهيمية والبلادة على الأبناء والبنات؛ ما يجعلهم في صراع داخلي: هل هو غبي
بالفعل كما شهد الأب وشهدت الأم، أم أنه ذكيّ لكن لا يستطيع أن يعبّر عن نفسه أمامهم
وأمام المجتمع؟
وإذا عُدنا إلى المنهج النبوي الكريم في التربية،
نراه صلى الله عليه وسلم يشجّع ويحفّز الشباب، ومن بين الصور التشجيعية التي كان يقوم
بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في تربيته، ما يأتي:
1- تشجيع المبادرات والأفكار الراقية الخادمة للبشـر وللمجتمع:
تشجيعه صلى الله عليه وسلم لفكرة سيدنا سلمان
الفارسي رضي الله عنه في غزوة «الخندق»، واستحسنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقام
يشارك بنفسه مع أصحابه في حفر الخندق يوم «الأحزاب»(1).
2- تشجيع المهارات العلمية والتعليمية:
كتحفيزه صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت
الأنصاري، يوم أن طلبَ إليه أن يتعلّم اللغة السريانية، ففي الحديث عَنْ خَارِجَةَ
بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا، أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، قَالَ زَيْدٌ: ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي
النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْـرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ
ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: «يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ
يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي»، قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ
لَهُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْـرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ
أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ(2).
3- الثناء باللفظ والكلمة المشجعة بديلاً عن الكلمات المُحبطة:
كألفاظ «نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يصلي
من الليل»(3)، وألفاظ: «ما ظننت أن يسألني أحد أوّل منك»(4)
قالها لأبي هريرة.
وكمثل ثنائه على أُبيّ بن كعب، فحين سأله:
«يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟»،
قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي
أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟»، قَالَ: قُلْتُ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) (البقرة: 255)، يقول سيدنا
أُبيّ بن كعب: فَضَـرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا
الْمُنْذِرِ»(5)؛ أي: فلتهنأ بالعلم، وليهنأ بك العلم.
يقول الإمام النووي وفي الحديث منقبة عظيمة
لأُبيّ ودليل على كثرة علمه، وفيه تبجيل العالم فضلاء أصحابه وتكنيتهم، وجواز مدح الإنسان
في وجهه إذا كان فيه مصلحة ولم يخف عليه إعجاب ونحوه لكمال نفسه ورسُوخه في التقوى(6).
ومثل ثنائه صلى الله عليه وسلم على الأشعريين؛
ففي الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْرِفُ
أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ
مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ
مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ، وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ، إِذَا لَقِيَ الخَيْلَ،
أَوْ قَالَ: العَدُوَّ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوهُمْ»(7).
وكم يتخيّل القارئ ويتصوّر حجم الإيجابية
النفسية والحركية التي يمكن أن تلحق بأمثال الأشعريين حين يسمعون تلك الشهادة الكفيلة
ببث الثقة والهمّة العالية في النفوس، وهذا شأن المربي الناجح في تربيته لأبنائه ولمن
جَاوَرَهُ مِن الخَلْق.
4- تولية الشَّباب مناصب قيادية ودعوية:
كاستعماله عليًّا على سريّة(8)،
واستعماله حمزة بن عمرو الأسلمي -وكان أحد الشبان الصغار- على سريّة أخرى، واستعماله
الشباب في الدعوة إلى الله، كمعاذ بن جبل؛ حين أرسله لليمن، ومصعب الخير بن عمير حين
أرسله إلى المدينة قبل ذلك.
وهنا يتساءل بعض الآباء والأمهات كيف تتم
معالجة أخطاء الأبناء والبنات؟
فلا شكّ أن بني آدم جُبلوا على الخطأ، وخاصة عند من حُرِم من الخبرة في الحياة، فكيف تتم معالجة الأخطاء؟ هذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم، إن شاء الله تعالى.
________________
(1) راجع: فتح الباري لابن حجر: قوله باب
غزوة الخندق، ج7، ص392، 393.
(2) مسند أحمد: مسند الأنصار، حَدِيثُ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (21618)، وقال عنه الشيخ
الأرنؤوط: (إسناده حسن).
(3) صحيح البخاري: كتاب التهجد، بَابُ فَضْلِ
قِيَامِ اللَّيْلِ، حديث رقم (1121، 1122).
(4) أخرجه البخاري في الصحيح من حديث أبي
هريرة، صحيح البخاري: كتاب العلم، بَابُ الحِرْصِ عَلَى الحَدِيثِ، حديث رقم (99).
(5) صحيح مسلم: كِتَابُ صَلاةِ الْمُسَافِرِينَ
وَقَصْرِهَا، بَابُ فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، حديث رقم
(258).
(6) شرح الإمام النووي على مسلم: ج6، ص93.
(7) صحيح البخاري: كتاب الغزوات والسير، بَابُ
غَزْوَةِ خَيْبَرَ، حديث رقم (4232).
(8) أخرج الترمذي في سننه: أبواب المناقب،
بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُقَالُ وَلَهُ
كُنْيَتَانِ: أَبُو تُرَابٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ، حديث رقم (3712)، من حديث عَنْ عِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَيْشًا وَاسْتَعْمَلَ
عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وقال عنه الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ،
وفي التحقيق: أنه صحيح.