التأويل النسوي للقرآن الكريم

د. فاطمة حافظ

15 سبتمبر 2025

144

التأويل هو المنهجية الأساسية التي تعتمدها النسويات من أجل إعادة قراءة النص القرآني المتعلق بالمرأة، ونقطة الانطلاق لديهن ضرورة الكف عن الفهم الحرفي الظاهري للنص والبحث عن معانيه المتعددة التي تتعدد بعدد من يقوم بالقراءة، وبفعل التأويل يمكنهن الوصول إلى أي نتائج ومن دون تحديد مسبق، وعند هذه النقطة تختلف النسويات عن «الإصلاحيين» الذين يعيدون قراءة النص وفق المناهج الدينية المستقرة عبر آلية الاجتهاد، وقصارى همهم محاولة تكييف النص ليتلاءم مع مقتضيات الحداثة.

ومنذ أواخر القرن الماضي، توالت الأعمال التأويلية التي أنجزتها ناشطات مسلمات درسن في الغرب، ومنهن الباكستانية أسما بارلاس التي أنجزت دراسة مهمة تحت عنوان «المؤمنات في الإسلام»، ومنهن الأفروأمريكية آمنة ودود التي أنجزت دراستها «القرآن والمرأة» في مطلع التسعينيات، وجميع المحاولات النسوية التي سعت إلى إعادة قراءة النص الديني من منظور أفادت مما قدمته في هذه الدراسة التأسيسية، ومن العالم العربي تبرز فاطمة المرنيسي التي أنجزت في أواخر الثمانينيات دراستها الذائعة «الحريم السياسي.. النبي والنساء»، وقاربت فيها بعض النصوص الحديثية والقرآنية.

شكلت هذه الدراسات الأساس المعرفي للتأويل النسوي الذي تواصل طيلة العقود التالية، وفيما يلي سنعرف بكيفية تأويل الباحثات النسويات للنصوص المتعلقة بالنساء، وذلك من خلال دراستي فاطمة المرنيسي «الحريم السياسي»، وآمنة ودود «القرآن والمرأة».

وضعت المرنيسي في كتابها «الحريم السياسي» أسس التأويل النسوي للنص القرآني، حين وقع اختيارها على آيتين شكلت -فيما تعتقد- وضعية النساء وهما: الآية (5) من سورة «الأحزاب»، والآية (233) من سورة «البقرة».

لم تكشف المرنيسي عن المنهج الذي اتبعته لتقارب النص الديني، واكتفت بالإشارة إلى أنها رحلت إلى التاريخ عبر هذا «الكتاب السفينة» الذي يغوص في أعماق التاريخ ليستخلص الحقائق من الوقائع المتشابكة، ولعل في هذا إشارة إلى أنها سوف تستخدم المنهج التاريخاني بحق نصوص القرآن، وأضافت أنها اطلعت على المصادر الإسلامية الأصلية، مثل سيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتفسير الطبري؛ كي تفهم الفترة التأسيسية للإسلام.

آية الحجاب

انطلقت المرنيسي من فرضية أساسية وهي أن النصوص الدينية قد جرى توظيفها من قبل الرجال بهدف إضفاء الشرعية على بعض الامتيازات ذات الطبيعة السياسية أو الجنسية، وحول هذه الفرضية طرحت تساؤلات حول المدى الذي بلغه التعسف في تأويل النص الديني، وكيف يمكن قراءة النص الديني الذي يمتزج فيه السياسي والديني.

في دراستها لآية الحجاب: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب: 53)، درست مفهوم الحجاب الذي عدته أحد المفاهيم المفتاحية في الحضارة الإسلامية، واعتبرته بمنزلة مفهوم «الخطيئة» في الحضارة المسيحية، والاعتماد (Cridet) في الحضارة الأمريكية، مفترضة أن مفهوماً بهذه المركزية لا يمكن تقليصه عند قطعة من القماش، ففي ذلك إفقار له وتفريغ له من مضامينه لكونه متجذرًا في بنية الثقافة العربية، وله استخدامات واسعة في مجالات مختلفة كالسياسة والتصوف.

ووفق منهجيتها التاريخية، تبحث المرنيسي في السياقات المصاحبة لنزول الآية، فتذهب إلى أنها نزلت في سياقين؛ الأول: سياسي عام؛ حيث نزلت في السنة الخامسة للهجرة وهي «سنة مشؤومة» بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم(!) لأنها أتت بعد هزيمته في غزوة «أُحد»، وفي أعقاب تجمع القبائل العربية لمهاجمة المدينة.

أما السياق الخاص فهو يوم زفافه من السيدة زينب بنت جحش، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يختلي بعروسه بعد حفل العرس، إلا أن قلة فظة من المدعوين على رأسهم أنس بن مالك لم تغادر، فنزلت هذه الآية «في غرفة الزوجين من أجل حماية حياتهما الخاصة وإبعاد الشخص الثالث عن النظر، وهو أنس بن مالك، فأنس خص بالحجاب بصفته شاهداً وممثلاً لجماعة أصبحت مزعجة جداً» فالحجاب بهذا المعنى –أي معنى الستار- لم ينزل ليكون حاجزاً بين رجل وامرأة وإنما ليكون حاجزاً بين رجلين.

وتخلص المرنيسي من خلال هذا السياق التاريخي إلى أن الآية تختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها لا تفرض على كافة المسلمات وضع الحجاب والاحتجاب في منازلهن.

العلاقة الزوجية

أما الآية الكريمة (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (البقرة: 223)، فقد نزلت كما تقول في حادثتين منفصلتين؛ امرأة من المدينة رفضت وضعاً معيناً من زوجها، والأخرى حول عنف أحد الأزواج ضد زوجته، وقد لجأت الزوجتان للرسول صلى الله عليه وسلم تشكوان إليه ذلك، فنزلت الآية التي تعتقد المرنيسي انحيازها إلى جانب الرجال حين أقرت بحريتهم في العلاقة الزوجية دون أن تقر بحرية النساء الموازية!

وعبر مناقشات وعرض رؤى مختلفة تستنتج المرنيسي أن ممارسة اللواط كانت ممنوعة على المستوى الشكلي في الإسلام الذي أقر ممارستها عملياً، وأن دور المرأة في العلاقة الزوجية وهي المبدأ الأساسي الذي أثارت الآية حوله النقاش ظل بدون حسم حتى الآن.

أما محاولة آمنة ودود التي جاءت بعد محاولة المرنيسي ببضع سنوات، فهي أول محاولة نظرية شاملة لتأويل النص القرآني من منظور نسوي، حيث أرست ودود من خلال كتابها أسس القراءة المنهجية للنص القرآني.

تقرأ ودود القرآن من خلال منهجية واضحة تقوم على استبعاد كافة التفاسير التي أنتجها العقل الإسلامي طيلة قرون «إذ ليس ثمة شك (لديها) في أن بعض التفاسير تمثل خيارات ذاتية للمفسرين لا ما يقصد إليه النص بالضرورة»، وتردف أنه ليس هناك تفسير نهائي للقرآن، وأن التفاسير السابقة عبرت عن اللحظة التاريخية التي وجدت فيها، ومن ثم فإنها تسعى إلى إنجاز إلى «تفسير مساواتي» يوافق العصر الحديث وينهي احتكار الرجال لتأويل النص الديني.

تقسم ودود التفاسير المتعلقة بالنص القرآني المتعلق بالمرأة إلى 3 تفاسير: «التفسير التقليدي» وهو تفسير يقرأ النص حرفياً ويفهمه وفق ما هو ماثل في عقل المفسر، و«التفسير الارتكاسي» الذي يعبر عن ارتكاسات الفقهاء وارتداداتهم الفقهية فيما يخص المرأة التي أزالت الفاصل بين النص القرآني ونص المفسر، أما التفسير الثالث والأخير فهو «التفسير الشمولي الكلي» (holistic) الذي تتبعه وتقارب من خلاله النصوص مقاربة شمولية تغاير «المقاربة الذرية»؛ أي مقاربة القرآن كل آية على حدة التي يعمد إليها أرباب المنهجين السابقين.

ويستند التفسير الشمولي على ما تسميه «هرمنيوطيقيا التوحيد» الذي يدرس العلاقة بين المفردة القرآنية والإطار الأخلاقي الشمولي للقرآن دون إغفال السياق التاريخي الذي نزل فيه الوحي وجاء فيه اللفظ.

ويفضي التأويل «الهرمنيوطيقي» لدى ودود إلى نتائج مغايرة لما ذهب إليه المفسرون، وعلى سبيل المثال، تعتقد ودود أن الحور العين لسن عذارى بيضاوات ذوات عيون سود، وحجتها أن هذا وصف نسبي للجمال يوافق أهل الجزيرة العربية لا يتفق عليه أهل الأرض الذين تتفاوت لديهم معايير الجمال، ولما كان القرآن بطبيعته مطلقاً ولا يمكن أن يقع في النسبية الثقافية، فهذا التفسير لا يمكن أن يكون صحيحاً، وبالتالي ترجح أن الحور العين لسن فتيات عذارى، وإنما هن مخلوقات في الجنة لا تنتمي إلى صنف الرجال أو الإناث!

وتشير المحاولتان السابقتان إلى وجود سمات معينة تميز التأويل النسوي مثل القول بالتاريخانية ورمي المفسرين بالذكورية، لكنه مع ذلك يظل مشروعاً معرفياً؛ وبالتالي فإن التعامل معه من خلال الأطر والمنظورات الشرعية وبمنطق الحل والتحريم لا نظن أنه يجدي نفعًا، فعلينا التعامل معه على اعتبار أنه طرح معرفي يحتاج إلى أدوات ومناهج علمية حتى يمكن التعامل مع النتائج التي يتوصل إليها.


اقرأ أيضاً:

النسوية الإسلاموية

كيف يتعامل المربُّون مع أطروحات النسوية الإسلامية؟

الأكاديمية الأردنية رولا الحيت لـ«المجتمع»: شرطان للقبول بـ«النسوية الإسلامية»


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة