الإعمار المقاوِم.. حلول مستدامة لبناء غزة في ظل الحرب

تعرض قطاع غزة لسلسلة من الحروب العدوانية من الكيان الصهيوني، بداية من عامي 2008 - 2009م الحرب التي سماها الاحتلال «الرصاص المصبوب»، وأطلقت عليها قوى المقاومة الفلسطينية «معركة الفرقان»، واستمرت 22 يوماً، ثم في عام 2012م وفي خضم ما سمي بـ«الربيع العربي» قام الاحتلال بحرب ثانية سماها «عمود السحاب»، وأطلقت عليها المقاومة «حجارة السجيل»، واستمرت 8 أيام فقط نظراً للموقف المصري الحاسم والحازم في رفض الحرب حيث صرح الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي، يرحمه الله: «لن نترك غزة وحدها»، ثم الحرب الثالثة في عام 2014م واستمرت 51 يوماً وأطلق عليها العدو اسم «الجرف الصامد» في حين أطلقت عليها المقاومة «العصف المأكول».

وبعد ذلك كانت معركة «سيف القدس» في عام 2021م التي كانت رداً من المقاومة الفلسطينية على إجراءات الاحتلال الهادفة إلى تهويد القدس والهيمنة على المسجد الأقصى، وسماها العدو «حارس الأسوار»، وكانت هذه الحرب تمثل بداية تحول المقاومة للمبادرة في العمل العسكري لتغيير واقع الاحتلال على الأرض ولتدفيعه كلفة احتلاله وتهديده للمقدسات.

ومؤخراً، كانت أطول وأشرس حرب، وكانت بحق حرباً شاملة، إنها معركة «طوفان الأقصى» التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023م وما زالت مستمرة إلى الآن على الرغم من توقفها مؤخراً فيما سمي بـ«خطة ترمب للسلام».

إن هذه الحروب سببت تدميراً هائلاً في البنية التحتية في القطاع، وما أعيد بناؤه بعد معركة «سيف القدس» تم إعادة تدميره، بالإضافة إلى توسع التدمير ليشمل جميع قطاعات الحياة الحيوية؛ من مبانٍ سكنية ومشافٍ ومدارس ومحطات المياه والكهرباء والطرق، حتى المساجد والكنائس والمقابر لم تسلم من القصف العدواني الهمجي! وباختصار، تدمر نحو 85% من البنية التحتية ومثلها من الأراضي الزراعية، وقدرت الأمم المتحدة الأضرار بأكثر من 70 مليار دولار.

تصورات عملية لإعمار يتكيف مع الحرب

إن إعادة الإعمار في ظل استمرار الحرب يتطلب حلولاً مرنة، قابلة للتكيف مع هذه الأخطار، وتقلل من الخسائر المحتملة في حال تجددها، خاصة مع تصريحات العدو المتكررة على أن الحرب لم تنتهِ بعد.

إعادة إعمار غزة في ظل استمرار الحرب تتطلب حلولاً مرنة وقابلة للتكيف مع الأخطار

ونقترح في هذا السياق أن يتم الإعلان عن مسار إعادة الإعمار بما يتلاءم مع هذه الأخطار، وعلى الجهات القائمة على إعادة الإعمار تقديم تصورات عملية وسريعة تتناسب مع الوضع في قطاع غزة، وإن المكاتب الهندسية في العالم على قدرة كبيرة في تقديم أفكار إبداعية عملية وحلول ابتكارية تراعي استمرار تهديد الحرب.

وهذه بعض الأفكار التي تولدت من الميدان والمتابعة:

1- تصميم عمراني مرن ومقاوم: وهذا يتطلب استخدام مواد بناء قابلة لإعادة الاستخدام مثل الطوب المضغوط أو الهياكل المعدنية القابلة للفك والتركيب.

وينبغي أن يراعي التخطيط في مرحلة الإعداد والتنفيذ مشاركة السكان المحليين لضمان ملاءمة الحلول للواقع اليومي، فقد أصبحوا قادرين على تحديد مواطن الضعف والخلل، وغالباً ستكون عندهم أفكار إبداعية للتغلب عليها، مع تدريبهم على إعادة البناء الذاتي باستخدام أدوات وتقنيات بسيطة.

وفي هذا الصدد، نقترح على القائمين على إعادة الإعمار أن يقوموا بإطلاق موقع إلكتروني يحث الغزيين على تقديم خبراتهم التي تشكلت من خلال معاناتهم على مدى أكثر من 700 يوم.

2- تصميم وحدات سكنية قابلة للنقل أو التفكيك: لتسهيل إعادة التوطين عند الضرورة، حيث إن معظم العائلات قد نزحت من مساكنها أكثر من 5 مرات في الحرب الأخيرة.

3- بنية تحتية محمية: حيث تمرر شبكات المياه والكهرباء والاتصالات في أنفاق محمية أو أنابيب مدفونة بعمق لتقليل تعرضها للقصف، واستخدام أنظمة شبكية غير مركزية بحيث لا يؤدي تدمير نقطة واحدة إلى تعطيل كامل الشبكة.

4- أبنية تحت الأرض، أو جزئياً تحت الأرض، لتوفير حماية من القصف، خاصة للمرافق الحيوية مثل المستشفيات ومخازن الطعام والطاقة، وتحصين المرافق الحيوية من مدارس ومستشفيات ومراكز مجتمعية بجدران سميكة، وأسقف مدعمة، وملاجئ داخلية، واعتماد فكرة بناء غرفة محصنة مجهزة في كل بيت تكون ملاذاً آمناً أثناء اشتداد القصف.

5- المدارس: إعادة تصميمها بحيث تكون مباني متعددة الاستخدامات يمكن تحويلها إلى مراكز إيواء أو إغاثة عند الحاجة، مع فصول دراسية قابلة للفك والتركيب لتسهيل إعادة الانتشار، ومناطق لعب داخلية محمية للأطفال في حال الحصار أو القصف، وتزويدها بشبكات إنترنت مستقلة لتفعيل التعليم عن بُعد عند الضرورة، وبمخازن طوارئ تحتوي على مواد غذائية وأدوية وأدوات تعليمية.

6- إنشاء شبكات كهرباء ومياه موزعة بدلاً من مركزية؛ لتقليل تأثير تدمير نقطة واحدة على كامل الشبكة.

7- إعمار تدريجي قابل للتعديل يقسم الإعمار إلى مراحل صغيرة يمكن تعديلها أو إيقافها حسب الوضع الأمني.

8- التركيز على البنية التحتية الأساسية أولاً مثل المياه والصرف الصحي والطاقة، باستخدام تقنيات بسيطة وسريعة التنفيذ.

الضامن الأكبر في نجاح إعادة الإعمار يعود للعامل البشري المحلي أصحاب الأرض

9- حلول تنموية منخفضة التكلفة وسريعة: كاعتماد الزراعة الحضرية على الأسطح أو في الحدائق المجتمعية لتوفير الغذاء وتقليل الاعتماد على الإمدادات الخارجية، وهنا يبرز دور توعية السكان لتحويل منازلهم لمنازل مقاومِة تستثمر حديقتها الخاصة وسطح منزلها لتوفير إمداد غذائي ذاتي، واستخدام الطاقة الشمسية والبدائل المحلية لتقليل الاعتماد على شبكات الكهرباء المعرضة للتدمير.

10- تصميم طرق قابلة للصيانة السريعة: استخدام طبقات إسفلتية رقيقة قابلة للإزالة وإعادة التمديد بسرعة، بدلاً من الأسفلت التقليدي السميك، وتقسيم الشوارع إلى وحدات معيارية يمكن استبدالها أو إصلاحها بشكل جزئي دون الحاجة لإغلاق الطريق بالكامل، واستخدام أعمدة إنارة تعمل بالطاقة الشمسية، ويمكن نقلها أو استبدالها بسهولة، وتصميم إشارات مرور قابلة للنقل أو التثبيت المؤقت باستخدام قواعد إسمنتية غير مدفونة.

وتخصيص ممرات طوارئ تسمح بالوصول السريع إلى الملاجئ أو المستشفيات، وإنشاء نقاط تجمع محمية على أطراف الطرق يمكن استخدامها كملاجئ مؤقتة أو مراكز إغاثة.

11- مواد بناء مرنة ومنخفضة التكلفة: استخدام الخرسانة مسبقة الصب، أو البلاط الخرساني القابل للفك في الأرصفة والممرات، والاعتماد على مواد محلية أو معاد تدويرها لتقليل التكلفة وسرعة التوريد.

12- دعم دولي مرن وشفاف: لتنفيذ ما سبق ذكره، لا بد أن يساهم العالم الإسلامي خاصة والإنساني عامة في عملية إعادة الإعمار عبر إنشاء صندوق دولي متعدد الأطراف يدعم الإعمار التدريجي ويضمن الشفافية في التوزيع، والعمل على تشجيع الابتكار في الإغاثة مثل استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد للبناء أو الروبوتات في إزالة الأنقاض.

الإرادة الشعبية.. الضامن الأكبر لنجاح الإعمار

ولعل الضامن الأكبر في نجاح إعادة الإعمار يعود للعامل البشري المحلي؛ أصحاب الأرض، فقد أثبتوا طوال فترة الحرب على توفر إرادة صلبة وعزيمة لا تنكسر في الصمود والثبات ورفض مخططات التهجير، فهم الأقدر على فهم الاحتياجات الأساسية لإعادة الإعمار وفق مفهوم «الإعمار المقاوِم».

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة