الإنسان اليمني على خارطة حقوق الإنسان

في عصرٍ مهتز تتقاذفه المنافع، وتُقحم
فيه المصطلحات البشرية التي تبرر التجاوزات أو ترتكب جريمة الصمت، يظهر الكلام عن حقوق
الإنسان كقضيةٍ معقدة بين نظرية الشعارات وتطبيقها، فبينما تتحدث المنظمات الأممية
بسمو المبادئ، يظل تطبيقها رهناً بالقوة السياسية وازدهار الاقتصاد، وهنا تتوضّحُ
مهمة تصويب النظر في الموقع الإنساني، ليس كرقم مجرد في التقارير المنظماتية، بل
كائناً يتميز بالروح والكرامة والقيم.
وبمثل هذا السياق، يبقى اليمني مثالًا
حيًّا على المفارقة الصارخة بين الخطاب العالمي عن الحقوق، والواقع الميداني الذي
يُمارَس عليه، إذ يعيش هذا الإنسان محنةً مركّبة من الفقر والحرب والتجاهل، دون أن
يفقد إيمانه العميق بأن الله لا يضيع أجر الصابرين.
الإنسان قبل الملف الحقوقي
يُختزل الإنسان اليمني في كثير من
التقارير إلى رقمٍ في جداول النزوح أو الجوع أو المرض، لكن خلف هذه الأرقام وجوهٌ
وذكريات، وحكاياتٌ عن صبرٍ طويلٍ وكرامةٍ مصانة.
إن الحديث عن حقوق الإنسان في اليمن لا
ينبغي أن يبدأ من المؤسسات الدولية، بل من الإنسان نفسه؛ من مفهوم الحق كما أراده
الإسلام؛ تكريمًا للإنسان في ذاته، لا منحةً من سلطةٍ أو منظمة، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)
(الإسراء: 70)؛ بهذا التكريم الإلهي يبدأ الوعي الحقوقي، وبه يُعاد بناء
الإنسان على قاعدةٍ راسخة من الكرامة والعقيدة.
حين تختبر الكرامة بالنزوح منذ سنواتٍ
طويلة، يعيش ملايين اليمنيين في نزوحٍ داخليٍّ لا ينتهي، تركوا بيوتهم وقراهم
ومزارعهم، وحملوا أطفالهم إلى المجهول، في الخيام البسيطة التي نصبوها، ما زالوا
يؤدّون صلواتهم في وقتها، ويُعلّمون أبناءهم شيئًا من القراءة والقرآن، كأنهم
يقولون للعالم: «لن نموت جوعًا قبل أن نموت تركًا للقيم».
هذه المشاهد اليومية تُذكّرنا بأن حقوق
الإنسان لا تقتصر على النصوص، بل على الضمير الذي يُترجمها إلى فعلٍ إنساني.
الحقوق.. بين الخطاب الديني والمواثيق الدولية
ليست الفجوة بين الخطاب الإسلامي ومواثيق
الأمم المتحدة فجوة في القيم، بل في الجذور والمنطلقات، فالإسلام يرى أن الحق واجب
يؤدَّى، بينما ترى المواثيق الحديثة أنه امتياز يُطالَب به.
الفرق بين النظرتين عميق؛ الأولى تُحمِّل
الإنسان مسؤولية العدل، والثانية تكتفي بالمطالبة به، لذلك حين يُطالب اليمني
بحقوقه من منطلقٍ إيماني، فهو لا يُنادي بشيء طارئ أو مستورد، بل يُعيد صوته إلى
أصل الفطرة التي كرّمه الله بها.
إن التصور الإسلامي للحقوق لا يقوم على
فكرة الفرد المنعزل الذي يطالب بحقوقه أمام سلطة متعالية، بل على الإنسان المستخلف
في الأرض، الذي يحمل واجب الإصلاح قبل أن يطلب لنفسه الإنصاف، فالله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 85)، فالأمر هنا تكليفٌ مباشر لا ترفٌ
قانوني.
العدالة ليست شعارًا مرفوعًا في المحافل،
بل عبادةٌ يتقرب بها الإنسان إلى خالقه، وحين يقرأ المسلم قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)
يدرك أن الكرامة حقٌّ إلهيٌّ شامل لا يُفرّق بين لونٍ أو نسبٍ أو مذهبٍ أو موطن، إنها
ليست منحةً من بشرٍ لبشر، بل عهدٌ من الله في خلقه، ولذلك فهي لا تُلغى ولا
تُقايَض ولا تُقيَّد بقرارات، وقد عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى
حين قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره»، وهو حديث يجعل من
حماية الإنسان واجبًا على كل مؤمن، قبل أن تكون مطلبًا من الدولة أو المنظمة.
بينما في المنظور الدولي الحديث، تُعتبر
الحقوق تعاقدًا بين الفرد والدولة، تحكمه القوانين والمواثيق، وقد تُمنح أو
تُقيَّد بحسب الظروف السياسية والاقتصادية، فالحق في التعليم أو في الصحة، مثلًا،
قد يُعتبر «حقًا أساسيًا» في وثائق الأمم المتحدة، لكنه في الواقع العملي يخضع
لقدرة الدولة على التمويل أو لموقفها السياسي من المجتمع الدولي، وهنا تتبدّى
المفارقة؛ فبينما يجعل الإسلام الحق واجبًا على القادر، تجعل المواثيق الحديثة
الواجب حقًا لمن استطاع أن يطالب به.
إن المنظور الإسلامي يتجه إلى عمق
الضمير، يربط الحقوق بالمسؤولية والواجب، ويغرسها في سياق الإيمان والمحاسبة أمام
الله، بينما يتجه المنظور الدولي إلى الإطار الإداري والقانوني الذي لا يتجاوز في
كثير من الأحيان حدود النصوص الورقية.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أن المواثيق
الدولية، رغم ما يعتريها من ازدواجية، قد أدت دورًا مهمًا في تطوير الوعي الإنساني
بحقوق الشعوب والأفراد، وأنها ساهمت في الحدّ من كثير من صور الاستبداد والانتهاك،
ولو من باب الضغط الأخلاقي والإعلامي، فالحق في الحياة، مثلًا، الذي نصت عليه
المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو في جوهره امتداد لقوله
تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32)،
فالمنبع واحد وإن اختلفت الصياغة؛ الحياة حرمة مقدسة لا يملك أحد حق سلبها، غير أن
الفارق الجوهري هو أن الإسلام يربط هذا الحق بالعقيدة والأخلاق، بينما تراه
المواثيق مجرد قيمة قانونية قابلة للمراجعة أو التأويل.
لهذا يمكن أن نجد في الواقع أن الدول
التي صاغت تلك المواثيق هي ذاتها التي تُبرر الحروب، وتفرض العقوبات التي تحرم
الشعوب من الدواء والغذاء والماء، باسم السياسة لا باسم العدل.
الوعي بالحقوق لا يصنعه الإعلام ولا
تُنشئه الشعارات، بل ينشأ من التعليم والقدوة، حين يتربى الطفل اليمني على أن حفظ
الكرامة واجبٌ ديني، وأن الظلم جريمةٌ قبل أن يكون مخالفةً قانونية، حينها فقط
يتحقق التحول الحقيقي في مسار الوعي.
وقد أثبتت التجارب أن المجتمعات التي
تَبنَّت التعليم الديني القائم على الرحمة والعدل أنتجت مواطنين أكثر التزامًا
بالحقوق وأقرب إلى الإنصاف من أولئك الذين اكتفوا بالتنظير القانوني المجرد.
التحدي الأكبر.. الإنسان بين السياسة والإغاثة
كثير من الملفات الحقوقية في اليمن تقع
اليوم في منطقةٍ رمادية بين السياسة والعمل الإنساني، يُرفع الشعار الحقوقي
أحيانًا لتبرير التدخلات، أو يُستعمل كأداة ضغطٍ سياسيٍّ بدل أن يكون جسرًا
للإغاثة.
الإنسان اليمني لا يريد شفقةً موسمية، بل
يريد نظامًا يُنصفه وعدالةً تحميه، يريد أن يرى في الخطاب الإسلامي المعاصر صوتًا
يتحدث عنه بإنصاف، لا بخجلٍ أو تردّد، إن الدعوة إلى نصرة المظلوم، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، تبدأ بوقف الظلم وإعانة
المظلوم، لا بتبادل البيانات والبيانات المضادة.
رغم الجراح، فإن اليمني ما زال ينهض كل
صباحٍ ليبتسم، يزرع ما بقي من أرضه، ويستقبل ضيفه كما لو لم يكن هناك حربٌ ولا
دمار، تلك الصورة وحدها تختصر فلسفة الإيمان؛ أن الكرامة تُستمد من الصبر، وأن
الله لا يُضيع أجر الصابرين.
في كل بيتٍ يمنيٍّ قصةٌ تُروى عن عزةٍ
وسط الفقر، وحياءٍ وسط الجوع، ورضا وسط المعاناة، وهذه القصص -إن صيغت بلغةٍ
إنسانيةٍ وإيمانية- قادرةٌ على أن تُعيد تعريف «حقوق الإنسان» في العالم كله.
ليس المطلوب أن نضع اليمني على خارطة
حقوق الإنسان بوصفه «ضحية» فقط، بل بوصفه أنموذجًا لصبر الإنسان المؤمن حين
يُبتلى، ومثالًا على أن الحقوق الحقيقية لا تُمنح من الخارج، بل تُستمد من داخل
الضمير والوجدان.
الإنسان اليمني لا يطالب بأكثر من حقه في
العيش الكريم، ولا بأقل من أن يُنظر إليه بعين العدل لا بعين الشفقة، وفي ضوء قيم
الإسلام التي تُنادي بالرحمة والعدل والتكافل، تبقى قضيته مفتوحة على الأمل، لأن
الله تعالى وعد بقوله: (إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
(الرعد: 11).
اقرأ أيضاً: