اقتصادات التفاهة.. كيف يحول المحتوى السطحي انتباهك لمليارات؟!

في عالم تضخم فيه المحتوى، لم تعد المعلومة هي القيمة، بل أصبح «الانتباه» السلعة الأثمن، فالمحتوى التافه أو السطحي صار وقودًا يُغدي النظام الاقتصادي، حيث تتحول الإثارة اللحظية إلى إيرادات مالية.

من هنا، نشأت منظومة اقتصادية جديدة تُعرف بـ«اقتصادات التفاهة»؛ حيث يتحول الوقت البشري إلى سلعة، والاهتمام إلى عُملة، وهي ليست مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل نظام مالي معقد يحوّل المحتوى السطحي والسريع ضئيل القيمة إلى مليارات الدولارات سنويًا، مستغلاً خوارزميات المنصات وعلم نفس المستهلك.

التفاهة كسلعة.. الإطار النظري للاقتصاد الجديد

يُقصد بصناعة التفاهة: إنتاج، وتوزيع، وتسويق محتوى إعلامي أو رقمي يفتقر إلى القيمة المعرفية، أو الفنية، أو الثقافية، ويكون الهدف الأساسي منه هو جذب أكبر قدر ممكن من المشاهدات والتفاعل السطحي لتحقيق الربح، هذا المحتوى يعتمد غالبًا على الإثارة، والدراما الشخصية، والتحديات الساذجة، أو استعراض الحياة اليومية بشكل مبالغ فيه.

يعود الأساس الفكري لهذه الاقتصادات إلى مفهوم «اقتصاد الاهتمام» الذي صاغه الاقتصادي هربرت أ. سيمون في سبعينيات القرن الماضي، وقد لخص الفكرة بقوله: «في عالم غني بالمعلومات، فإن وفرة المعلومات تعني ندرة شيء آخر؛ ندرةً في كل ما تستهلكه المعلومات، وما تستهلكه المعلومات هو انتباه المتلقي»(1).

وفي اقتصادات التفاهة، يتم تطبيق هذا المبدأ بذكاء:

- الندرة هي الاهتمام: نظرًا لوفرة المحتوى الرقمي، أصبح انتباه المستخدم المورد الناقص، وهو ما تتنافس عليه المنصات والمنتجون.

- المحفزات السريعة: المحتوى التافه كالفيديوهات القصيرة، والتحديات، والدراما المصطنعة، هو الأكثر كفاءة في اقتناص هذا الانتباه بأقل تكلفة فكرية للمشاهد؛ ما يضمن بقاءه لأطول فترة ممكنة على الشاشة.

الأبعاد المالية والاقتصادية.. أرقام تتجاوز التوقعات

هذه الصناعة ليست مجرد هواية، بل منظومة اقتصادية ضخمة تدر مليارات الدولارات، إن حجم هذه الاقتصادات يوضح أنها باتت جزءًا لا يتجزأ من السوق الرقمية العالمية:

1- التسويق والإعلانات: المنصات (مثل «يوتيوب»، «تيك توك»، «إنستغرام») تدفع للمنتجين بناءً على المشاهدات التي يجذبونها، والربح الأكبر يأتي من الإعلانات التي تُعرض ضمن هذا المحتوى، كلما زادت المشاهدات التافهة؛ زادت الإيرادات الإعلانية للمنصة ولصانع المحتوى، على سبيل المثال شركة «ميتا» (المالكة لـ«فيسبوك» و«إنستغرام») سجلت إيرادات إعلانية بلغت نحو 160.6 مليار دولار في عام 2024م.

2- العلامات التجارية الشخصية: يتحول صانعو هذا المحتوى إلى نجوم أو مؤثرين (Influencers) يبيعون أنفسهم كعلامات تجارية، ثم يتم استغلال هذا الجمهور الهائل للترويج للمنتجات والخدمات مقابل مبالغ ضخمة، وقُدرت قيمة صناعة التسويق عبر المؤثرين عالميًا بحوالي 10 مليارات دولار أمريكي عام 2020م(2)، وحوالي 24 مليار دولار في عام 2024م، ومن المتوقع أن تصل إلى 32.55 مليار دولار بنهاية عام 2025م(3).  

3- سهولة الإنتاج وتكلفته المنخفضة: غالبًا ما يتطلب المحتوى السريع مهارات إنتاج أقل وتكلفة مادية منخفضة مقارنة بإنتاج محتوى وثائقي أو فني عالي الجودة؛ ما يرفع من هامش الربح، يشير المتوسط العالمي إلى تحقيق 5.78 دولار كعائد مقابل كل دولار واحد يتم إنفاقه على التسويق عبر المؤثرين.

4- نمو اقتصاد المبدعين: تُعد اقتصادات التفاهة جزءًا كبيرًا من مظلة أوسع تسمى «اقتصاد المبدعين»، الذي يشمل كل منشئي المحتوى، هناك ما يزيد على 207 ملايين منشئ محتوى نشط حول العالم، يعمل عدد كبير منهم على إنتاج محتوى ترفيهي أو يومي خفيف (ما يُصنف غالبًا ضمن التفاهة).

يُتوقع أن تصل القيمة السوقية لاقتصاد المبدعين العالمي إلى حوالي 528 مليار دولار بحلول عام 2030م، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 22.5%(4).

إعادة توزيع الثروة الرقمية

وراء بريق هذه الصناعة، تعمل اقتصادات التفاهة كآلية دقيقة لإعادة توزيع الثروة الرقمية، فالمستخدمون لا يدفعون أموالاً مباشرة، بل يقدّمون أغلى ما يملكون؛ انتباههم ووقتهم، وهذان الموردان يتم تحويلهما إلى أرباح ضخمة.

تقوم المنصات بجمع هذا الانتباه وتعبئته في صورة بيانات سلوكية تُباع للمعلنين، لتتحول الدقائق الصغيرة التي يقضيها الأفراد أمام الشاشات إلى تدفقات نقدية مستمرة، وبهذا يُعاد توزيع القيمة من الجمهور العريض الذي يدفع انتباهه ووقته، إلى الشركات والمنصات التي تحتكره وتبيعه لمن يدفع أكثر، إنها عملية استثمار غير مرئية، يكون رأسمالها الأساسي الوعي الإنساني نفسه.

الأسباب الرئيسة لازدهارها

  • خوارزميات المنصات: الخوارزميات مصممة لتفضيل المحتوى الذي يولد تفاعلاً سريعًا (حتى لو كان سلبيًا أو غاضبًا)، وهذا غالبًا ما يكون المحتوى المثير أو السطحي.
  • الهروب والراحة: يفضل الكثيرون المحتوى الخفيف الذي لا يتطلب تفكيرًا عميقًا كوسيلة للهروب من ضغوط الحياة أو للتسلية السريعة.
  • انتشار الهواتف الذكية والوصول السهل: سهولة الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي جعلت استهلاك هذا النوع من المحتوى مسألة بضع نقرات.

آليات تحويل التفاهة إلى نقد

تعتمد اقتصادات التفاهة على عدة آليات مالية وتقنية لضمان استدامتها:

الآلية الاقتصادية

طريقة العمل

العلاقة بالتفاهة

- الخوارزميات والانتشار

المنصات تفضل المحتوى الذي يحقق أعلى معدلات تفاعل، سواء كان بالإعجاب، أو التعليق، أو المشاركة.

المحتوى المثير للجدل، أو الذي يلعب على العواطف (حتى السلبية)، أو السهل استيعابه يحقق تفاعلاً أسرع وأعلى، بما يعني أن الخوارزمية تكافئ التفاهة بالانتشار.

- المؤثرون الصغار

تتجه العلامات التجارية للتعاقد مع المؤثرين الصغار الذين يملكون عددًا أقل من المتابعين (أقل من 50 ألفاً).

هؤلاء المؤثرون يملكون معدلات تفاعل أعلى ووصول أفضل بتكلفة أقل.

- تسليع الذات

يتحول صانع المحتوى إلى علامة تجارية تُباع للجمهور والمعلنين: حياته الشخصية، تصبح محتوى مدر للدخل.

يتم استغلال "العفوية" في المحتوى التافه لكسب ثقة الجمهور، قبل بيع هذه الثقة لاحقًا للمعلنين.

- الإنتاج منخفض التكلفة

يمكن إنتاج محتوى تافه (فيديوهات "تيك توك" مثلاً) باستخدام هاتف ذكي وفي غضون دقائق.

هذا يضمن تدفقًا مستمرًا للمحتوى، دون الحاجة لاستثمارات إنتاج ضخمة، ما يزيد من هامش الربح.

 

التكلفة الاجتماعية لاقتصاد التفاهة

إن اقتصادات التفاهة، رغم ضخامتها، لا تخلو من التكاليف الاجتماعية والمعرفية، فبينما يتم تداول مليارات الدولارات، يحدث تدهور في القيمة المعرفية والثقافية للمحتوى المنتَج، إنها تساهم في:

  • تسطيح الأذواق: حيث يتم تهميش المحتوى الجاد والعميق لصالح الإثارة اللحظية.
  • اللامبالاة: خلق حالة من اللامبالاة، وعدم الرغبة في مواجهة المشكلات، والعجز عن الاستجابة للمعاناة الإنسانية، والفشل في التكيف مع الظروف المحيطة.
  • عدم المساواة: حيث تتركز الثروة الرقمية في أيدي عدد قليل من نجوم التفاهة (أكثر من 96% من المبدعين لا يتجاوز ربحهم 100 ألف دولار سنويًا)، ما يخلق طبقة نخبوية تسيطر على مساحات الاهتمام الرقمي.

وفي النهاية، التفاهة أصبحت صناعة قائمة بذاتها، تتبع قوانين العرض والطلب، وتُحركها دوافع اقتصادية واضحة، يتم فيها تعبئة أوقات الناس واستهلاكها لتحويلها إلى أموال عبر نظام الإعلانات والتسويق، وتظل القاعدة الاقتصادية الأبرز: ما دام الجمهور على استعداد لدفع وقته واهتمامه مقابل الترفيه الخفيف، فإن اقتصادات التفاهة ستستمر في الازدهار والنمو بلا توقف، وكلما قلَّ عمق الإنسان؛ زادت أرباح النظام، وهكذا يربح اقتصاد التفاهة من خسارتنا نحن؛ خسارة التركيز، والذوق، والمعنى.




___________________

(1) HERBERT A. SIMON. (1971). “Designing Organizations for an Information-Rich World”. Baltimore. MD: The Johns Hopkins Press.

(2) Statista. (2025). Influencer marketing worldwide - statistics & facts. Available at: https://www.statista.com/topics/2496/influence-marketing/?srsltid=AfmBOopbb4E04eEYhp8fjrJWVnGMw1jx2Hqdm1a2iOY30kPaaPQA0C-_#topicOverview

(3) Statista. (2025). Global influencer marketing value 2015-2025. Available at:

https://www.statista.com/statistics/1092819/global-influencer-market-size/?srsltid=AfmBOorkv15V2C9g7LGschUxj_RtA02Ha48DWgJSW9sppUj8YqwMX

(4) Fabio Duarte. (2024). Creator Economy Market Size (2025-2030). Available at:

https://explodingtopics.com/blog/creator-economy-market-size

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة