استثمار أموال الوقف بالوسائل المعاصرة

الوقف إحدى دعائم قامت عليها الحضارة الإسلامية، حمل هموم العامة بشكل خاص، وهموم الأمة بشكل عام، لقد عُرفت الدواوين في تاريخ الإسلام لكنها خلت من ديوان للتعليم، والسبب في ذلك أن التعليم لم تقم عليه الأنظمة التي حكمت طول التاريخ، بل قام الوقف عليه، بداية من الإنفاق على المعلمين والمتعلمين، وبناء المدارس وإنشاء المكتبات؛ وانتهاء بتمويل نسخ الكتب ووقفها للمتعلمين.

وفي المجال الصحي كان الأمر مدهشاً، تتحدث المستشرقة زيغريد هونجه عن الواقع الصحي في ظل الحضارة قديماً قائلة: إن مستشفى المنصوري كان يستهلك سنوياً مليون درهم، فمن أين كان يؤتى بكل هذه الأموال؟

ثم تجيب قائلة: كانت كل هذه الأموال تحصل من الأوقاف التي كانت تخصص للمستشفيات لدى تأسيسها(1).

لقد ابتكر المسلمون لموارد الوقف ومجالاته سبلاً متنوعة، وكان بعضها مدهشاً حيث وصل لوقف الحلي لمن لا تستطيع الشراء في يوم عرسها، وتعويض الصغار عن المتلفات حتى لا يتعرضوا للعقوبة.. إلخ.

وقد تنوعت مصادر الوقف من وقف الأموال، للعقارات للمزارع للكتب إلى غير ذلك.

واقع يحتاج لتجديد

إن من نافلة القول: إن قطاعات التنمية تنقسم اليوم إلى ثلاثة أقسام: القطاع العام، والقطاع الخاص، والقطاع غير الربحي، والقطاع الثالث يقوم على الأوقاف بأشكالها المتعددة حيث ينقسم إلى: وقف أهلي أو ذُرِّي، ووقف خيري، ووقف مشترك.

تجدر الإشارة إلى أن هناك دراسة شملت تحليل 104 أوقاف من الأوقاف الكبيرة في مصر وسورية وفلسطين وإسطنبول والأناضول من عام 1340 - 1947م؛ خلصت إلى أن 55% من مجموعها كانت وقفاً خيرياً، و25% أوقافاً على الذرية، و14% أوقافاً مشتركة، والباقي 6% أوقافاً درست لم تحدد هويتها.

وتوزعت الأوقاف كما يلي: الجوامع (27%)، والمساجد (11%)، والمدارس (11%)، والسبيل (9%)، والكتاتيب (8%)، والتكايا والزوايا (7%)، والحرمان الشريفان (5%)، الفقراء والمعوزون (5%)، متنوعات ومتفرقات (17%)(2).

أصبح الوقف أمام حركة المجتمع الموَّارة، وتغير طرائق ووسائل الاستثمار إلى التطوير في الوسائل والغايات، في المتغير من أحكامه دون الثابت منها.

كما أصبح من غير المستساغ أن تدار الأوقاف في عصرنا هذا بنفس ما كانت تدار به سابقًا، فقد اختلفت الحاجات وتنوعت بتطاول الزمن وتمدد الجغرافيا، والوقف نفسه تطور من فكرة التأبيد المطلق إلى فكرة العمل المانح، وصار لدينا الوقف الوقتي، والوقف التكنولوجي، ووجود ما يعرف بالمسؤولية المجتمعية للشركات (CSR) والوقف الرقمي.

استثمار الأوقاف في الفقه الإسلامي

يقصد بالاستثمار: «توظيــف المســلم مالــه أو جهــده فــي نشــاط اقتصــادي مشــروع، بهــدف الحصــول علــى نفــع يعــود عليــه أو علــى غيــره فــي الحــال أو المآل(3).

ويمكننا أن نقول: إن الاستثمار في الوقف يقصد به: تمكين أكبر عدد من المستفيدين منه، بتوسيع دائرة موارده، وتنميتها بالوسائل الحديثة، مع الرعاية والحفظ.

بيَّن الفقه حدود تصرف ناظر الوقف، حيث تخالف الأوقاف الزكاة، من حيث جواز تنميته واستغلاله وتأجيره بضوابط لا تخل بعوائده، على خلاف أمر الزكاة عند إرادة استثمار أموالها، فـ«وظيفة الناظر حفظ الوقف، وعمارته، وإيجاره، وزرعه ومخاصمة فيه وتحصيل ريعه من أجرة أو زرع أو ثمر، والاجتهاد في تنميته وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق»(4)، فقوله: «والاجتهاد في تنميته» دلالة واضحة على أن ناظر الوقف ومن يدير أمره ليست مهمته إشرافية رقابية، بل هي إدارية تنموية، ترعى الوقف بما يحفظه من الاندثار، وما يعود على المستفيدين بأقصى فائدة.

كما أن الفقهاء منعوا الناظر من إعارة الأوقاف حتى لا يبطل بذلك حق الفقراء(5)، وفي هذا صيانة له من الضياع، وهو استثمار بالحفظ للأصل من الفوات.

طرق استثمار أموال الوقف في المعاملات المعاصرة

تشعبت في العصر الحديث طرائق الاستثمار، وأصبح الاستثمار بالشكل القديم أحد المجالات، لكن استحدثت مجالات أخرى في الاستثمار توافق تغيرات الزمن.

إن أهم خطوة يجب أن تسبق الاستثمار هو أن تخضع الأوقاف أو المؤسسات الوقفية لمبادئ الحوكمة المعروفة وهي: الشفافية، والمساءلة، والعدالة، والمشاركة، والفعالية

فبدون تلك المبادئ لا يمكن للأوقاف أن تخطو خطوات نحو الاستثمار الناجح، فالحوكمة توفر الشفافية والمحاسبة، حيث يمكن لأي مواطن أن يتأكد بأن المؤسسة تترجم الموارد إلى برامج تحقق التنمية، من خلال توفير المعلومات المحاسبية الملائمة، كما أنها تقاوم أشكال الفساد الإداري والمالي، وتساعد في تحديد الأهداف وسبل تحقيقها، والرقابة على الأداء، وضمان الاستمرارية بأسلوب علمي من خلال دراسة احتياجات وأولويات الفئات المستهدفة، ثم هي تحدُّ من العمل بأسلوب أزمة الإدارة، وتفعيل مفهوم إدارة الأزمة في ظل التخطيط الإستراتيجي والبعد عن التخبط والعشوائية(6).

الذكاء الاصطناعي ودور استثماري ممكن

أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم أداة مهمة لتطوير المؤسسات على اختلافها، ومهما حاولت المؤسسات عدم الالتفات إليه تعلقًا بالموروث، أو بحجة ما تحقق طول الزمن بدونه، فإن هذه ستصبح بعد حين حججاً واهية، تشبه حجة من يرفض ركوب السيارة، لأن السفر بدونها كان يتم قبل تصنيعها وإتاحتها، وكانت الحياة قائمة، فالمؤسسات التي تبادر في تحديث أنظمتها وفق المستجدات هي التي تكون خطواتها في التطوير قفزاً لا زحفاً.

من هنا كان اعتبار الذكاء الاصطناعي في الاستثمار الوقفي مهماً، فيمكن من خلاله تعظيم العائد، وتقليل الأخطار، وتعزيز الشفافية، وتوجيه الاستثمار لخدمة التنمية، كذا تحليل الأسواق المالية والعقارية، لمعرفة أين يمكن استثمار أموال الوقف بأمان وعائد مناسب، ومن خلال تحليل البيانات، يمكن التنبؤ بأفضل طرق الاستثمار خاصة في العقارات الوقفية؛ بتأجيرها، أو إعادة تطويرها، واستحداث شراكات لها، ويمكن به أيضًا إدارة الأخطار، وتحديد طرق الاستثمار في الأسهم والصناديق الاستثمارية المتوافقة مع الشريعة، والمشاريع التنموية المستدامة، والاستثمار في التكنولوجيا والطاقة المتجددة.

وفي الأخير يمكن من خلاله تطوير مساعدات ذكية للتواصل مع الواقفين والمانحين والرد على استفساراتهم.

مقترحات في الاستثمار الوقفي

يعتمد نظار الوقف والقائمين على أمره غالبًا على ملكاتهم الخاصة في إدارة الوقف، وهذا يؤثر سلباً على عوائده، فالملكات الخاصة قد تجدي في فنون الإدارة، وتضر في مجالات الاستثمار، ولا ينبغي في استثمار أموال الوقف تركها حيثما اتفق، أو طبقاً لهوى القائمين على إدارته ونظارته، بل لا بد من إجراء دراسات جدوى من المتخصصين لكل مشروع قبل الاستثمار فيه، وتحديد العوائد الاقتصادية الممكنة، وذلك باستقطاب وتأهيل كفاءات بشرية متخصصة في استثمار الأوقاف (محللون ماليون، مديرو استثمار، خبراء عقاريون) مع فهم خصوصية الوقف وأحكامه الشرعية الخاصة.

يمكن في سبيل تيسير الاستثمار الوقفي -مع ما سبق- تشجيع الوقف النقدي كبديل مرن يمكن تحقيق أهداف الوقف به بيسر، وينبغي أيضاً إنشاء منصات إلكترونية تعرض فرص الاستثمار الوقفي، وتجذب المستثمرين على اختلافهم.

وأخيراً، لا بد من فصل النيابة العامة على الأوقاف، عن الهيئة التنفيذية، جهة الاستثمار، لضمان الرقابة والشفافية، فإن التداخل بين الجهتين يجعل أمر الشفافية معقداً، بل مستحيلاً؛ ما يعني أن فرص التبديد ممكنة، وأمان من يقوم على الوقف من المراجعة والمحاسبة إذا قصر أو أخلَّ، أو وقع في الفساد والتقصير

فالاستثمار في الأوقاف إدارة تعتمد الحوكمة، وتفكير تنموي يقوم به المتخصصون، لا مجرد مجالات متاحة يختارها من يقوم عليه.




_________________

(1) شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونجه، ص 231.

(2) https://2u.pw/fH5oe2O.

(3) مخاطر الاستثمار في المصارف الإسلامية، ص40.

(4) الإقناع في فقه الإمام أحمد (3/ 14).

(5) الاختيار لتعليل المختار (3/ 47).

(6) تفعيل الرقابة المالية في المنظمات غير الهادفة للربح، ص 361.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة